*إيزابيل الليندي
أحتاج أن أروي قصَّة، هذا هاجس. فكل قصَّة هي بذرة تنمو في داخلي، وتأخذ في النموّ كورم، ويجب علي أن أتعامل معها عاجلًا أم آجلًا. لكن لماذا هذه القصَّة بالتحديد؟ لا أعرف، ولا يمكنني حينها معرفة ذلك أبدًا، ولكنّني أعرفه لاحقًا بالتدريج.
اكتشفت مع مرور السنوات أنّ كلّ القصص التي رويتها، وكلّ القصص التي سأرويها، مرتبطة بي بطريقة ما. عندما أتحدَّث عن امرأة في العصر الفيكتوري، تغادر بيتها الآمن وتأتي لمطاردة حمّى الذهب في كاليفورنيا، فأنا أتحدَّث حينها عن النسويَّة، وعن التحرّر والانعتاق، عن الأمور التي مرّرت بها في حياتي الخاصَّة هاربة من عائلة تشيليَّة محافظة وبطريركيَّة وكاثوليكيَّة وفيكتوريَّة، خارجة إلى العالم.
عندما أبدأ تأليف كتاب ما، فأنا لا أعرف إلى أين سيذهب. إذا ما كانت رواية تاريخيَّة فإنّني أبحث في الفترة الزمنيَّة والمكان الذي تدور به أحداثها، لكنّني لا أعرف ما هي القصَّة التي سأرويها بالتحديد. أعرف فقط بأنّني أريد بشكلٍ رقيق وخفي أن أحدث تأثيرًا ما على عقل القارئ وقلبه.
أظن أنّه يمكن لقرّائي أن يفاجأوا حينما يعرفون كم أنا انتقائيَّة مع اللغة. كيف أقرأ فقرة ما بصوتٍ عالٍ، لا يعجبني أن يحتوي الكتاب كلمات مكرّرة. أتفحّص أعمالي المترجمة إلى الإنكليزيَّة سطرًا سطرًا. ترسل إلي مترجمتي “مارغريت” من عشرين إلى ثلاثين صفحة وعندما أجد كلمة واحدة لا تتطابق مع المعنى الذي كنت أرمي إليه، أستعين بالمعجم.
مهم جدًّا بالنسبة إلي أن أجد الكلمة المحدّدة التي ستخلق الشعور أو تصف الحالة التي أريدها. إنّني انتقائيَّة جدًّا في هذا الجانب، لأنّ المادّة الوحيدة التي أمتلكها هي الكلمات. لكن الكلمات مجّانيَّة، لا يهمّ كم مقطعًا لفظيًّا تستخدم، لأنّها مجّانيَّة يمكنك أن تستخدم منها ما تريد إلى الأبد.
أكتب بالإسبانيَّة، أستطيع أن أكتب خطابًا بالإنكليزيَّة، ولكن كتابة الخيال تحدث في الرحم، ولا تعالج في الذهن حتّى تشرع في المراجعة والتصحيح، لكن رواية القصص تأتي إلي بالإسبانيَّة. الأمر يشبه ممارسة الحبّ، لا يمكنني أن أعشق بالإنكليزيَّة، إنّها لا تحدث بهذه الطريقة.
في اللغات الرومانسيَّة كالإسبانيَّة والفرنسيَّة والإيطاليَّة توجد طريقة مزهرة. أحاول أن أكتب بشكلٍ جميل ونقديّ للأشياء، لا تجد هذا في الإنكليزيَّة، يقول زوجي حين تصله رسالة: إنّه يعرف إذا كانت مكتوبة بالإسبانيَّة، تكون الظروف ثقيلة، أمّا في الإنكليزيَّة فالرسالة عبارة عن فقرة تتّجه إلى الفكرة مباشرة، أمّا في الإسبانيَّة فإنّ هذا يُعدّ أمرًا غير لائق.
القراءة والحياة بالإنكليزيَّة، علّمتني أن أجعل اللغة جميلة بقدر الإمكان، لكنّها دقيقة. تعلّمت أن أتجاوز الإفراط في النعت والوصف، فهو ليس ضروريًّا. التحدّث بالإنكليزيَّة جعل أسلوبي في الكتابة أقل فوضويَّة. أحاول الآن أن أقرأ روايتي الأولى ” بيت الأرواح” ولا أستطيع، يا إلهي كلّ هذه الصفات؟ لماذا؟ كل ما كان عليّ فعله هو استخدام اسم واحد جيِّد بدلًا من ثلاث صفات.
عندما أحكي قصّة عن العبوديَّة، فإنّني أرويها بلسان المستعبد وأنظر على العالم بعينه هو. كذلك ألج قلب السيّد، أريد للقارئ ان يشعر بالعبد، أن يفهم ما معنى ألا يكون حرًّا.
في كل كتبي هناك نساء قويّات يتغلّبن على عوائق عظيمة لكي يكتبن أقدارهن. أنا لا أحاول أن أخلق نماذج تقلّدها النساء، كلّ ما أريده من القارئات أن يمتلكن القوّة، ومن القرّاء الذكور أن يفهموا معنى أن تكون امرأة. أظن أنّ هذا كل شيء، آه لحظة، أنا إنسانة غير قابلة للتوظيف، ماذا يمكن أن أعمل؟
الجحيم هو السابع من كانون الثاني/ يناير:
أبدأ كل كتبي في الثامن من كانون الثاني/ يناير، هل يمكنكم تخيّل السابع من كانون الثاني/ يناير؟ إنّه الجحيم.
في السابع من كانون الثاني/ يناير من كل سنة، أبدأ بتجهيز مساحتي الخاصَّة، أخليها من كلّ كتبي الأخرى وأبقي على المعاجم والمسودّات الأولى والموادّ التي تحوي البحوث للعمل الجديد. في الثامن من كانون الثاني/ يناير أمشي سبع عشرة خطوة من المطبخ إلى الملحق الصغير المقابل للمسبح، حيث مكتبي هناك، هذه الخطوات بمثابة رحلة إلى عالمٍ آخر. إنّه الشتاء، وعادةً ما يكون الجوّ ممطرًا، أمشي بمظلّتي، وكلبي يتبعني. بهذه الخطوات السبع عشرة أصبح في عالمٍ آخر وشخصًا آخر.
أذهبُ إلى هناك خائفة ومتحمّسة وخائبة الآمال، لأنّني لا أمتلك فكرة من النوع الذي هو في الحقيقة ليس فكرة. يذهب الأسبوع الأوّل والثاني والثالث والرابع هدرًا. فقط أسجّل حضورًا أمام شاشة الكمبيوتر أحضر وأحضر وبعد مدَّة تحضر لحظة الإلهام، هي في النهاية ستحضر لو لم تأتِ مدعوّة.
الجنَّة أن يحضر الإلهام
عندما أشعر أنّ القصَّة بدأت تتّخذ نبرة ما، تبدأ الشخصيّات بالتشكّل، ويمكنّني أن أراهم وأسمع أصواتهم، وهم يفعلون أشياء لم أخطِّط لها، أشياء لم يكن بوسعي أن أتخيّلها، حينها أعرف أنّ الكتاب موجود في مكانٍ ما، وكل ما علي فعله هو أن أجده وأجلبه إلى هذا العالم كلمة كلمة.
بعدها تتغيَّر حياتي وتصبح عمليَّة مختلفة تمامًا من الإثارة والوسوسة والتوتّر. أستطيع أن أعمل أربع عشرة ساعة! الجلوس بحدّ ذاته طوال الوقت أمر صعب. برمج ابني الكمبيوتر بحيث يتوقّف كل خمسة وأربعين دقيقة كي أنهض، وإذا لم أفعل، أتصلَّب وأعجز عن النهوض نهاية اليوم.
أنا أصحِّح إلى حدّ الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية مادّة لا يمكن إنهاؤها تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنّها يمكن أن تكون أفضل، ولكنّني أبذل قصارى جهدي. مع الوقت، تعلّمت تجنّب التصحيح المبالغ فيه، عندما امتلكت جهاز كمبيوتر لأوّل مرَّة، اكتشفت كم هو سهل تغيير الأشياء إلى ما لا نهاية، صار أسلوبي أكثر صلابة.
هنالك سحر ما في ما هو عفوي، اريد للقارئ أن يشعر بأنّي أروي له القصَّة شخصيًّا. عندما تروي قصَّة ما في المطبخ لصديقٍ ما، فهي مليئة بالأخطاء والتكرار. أحاول ان أتجنَّب ذلك في الأدب، ولكنّي ما زلت أريدها حوارًا، كما هو سرد القصص عادة، إنّها ليست محاضرة.
من الصعب إيجاد هذا التوازن. لكنّني أكتب منذ ثلاثين سنة، والآن أعرف عندما أبالغ في الأمر. أقرأ روايتي بصوتٍ عالٍ، إن لم تكن مثل الطريقة التي أتحدّث بها، فإنّني أغيّرها.
______
*إيزابيل الليندي: روائية تشيليَّة وُلدت في 1942، وحاصلة على العديد من الجوائز الأدبيَّة المهمَّة، ومن الأسماء المرشَّحة دائماً للحصول على جائزة نوبل. تُصنَّف كتاباتها في إطار الواقعيَّة السحرية، وتنشط في مجال حقوق المرأة والتحرّر العالمي. من أهمّ رواياتها: بيت الأرواح، وإيفالونا، وما وراء الشتاء. ** النصّ من كتاب (شهرزاد أميركا اللاتينيَّة.. نزهة في أهمّ اعترافات إيزابيل الليندي)، إعداد وترجمة: عبدالله الزماي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى 2016.
** النصّ من كتاب (شهرزاد أميركا اللاتينيَّة.. نزهة في أهمّ اعترافات إيزابيل الليندي)، إعداد وترجمة: عبدالله الزماي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى 2016.