حكاية الكتابة

كُتبي رفاقي العقلاء والمجانين في عالمٍ محافظ

*أَلِفْ شَفَقْ

كنتُ طفلة وحيدة وحزينة، ثمّ عبرتُ البوّابة الخفيَّة داخل رتابة الحياة اليوميَّة، خلف تلك البوّابة كان عالم أرض القصص الرائع، حديقة بحريَّة بألوانٍ فاتنة وعناصر استثنائيَّة تتلألأ وتتغيَّر وتتنفّس، في ذاك المكان الغريب لم تكن الأمور مقيَّدة بقواعد المجتمع أو بحدود ثقافة الفرد وتقاليده أو بهويّته القوميَّة، بل لم تكن مقيّدة حتّى بقواعد الفيزياء، يمكن للماء أن يتحدَّث في “أرض القصص” وللأنهار أن تُغيِّر مجراها إذا شعرت بالملل من التدفّق في اتّجاهٍ واحدٍ محدّد، ويمكن للزهور أن تؤدّي رقصة سريعة، وللنحل والحشرات أن تمتلك شخصيّات معقَّدة، كل شيء في “أرض القصص” كان ينبض بالحياة، كل شيء مهما بدا صغيرًا لديه قصَّة تستحقّ أن تُروى.

دخلتُ هذا العالم بنوعٍ من الشجاعة الفريدة، شجاعة لا يتحلَّى بها سوى عديمي الخبرة أو الجهلاء أو كليهما، لم أكن أشعر بالخوف، فغصتُ برأسي في هذه الحديقة البحريَّة مفتونة بعجائبها.

في الخارج، أي في العالم الحقيقي، كنتُ طفلة خجولة وانطوائيَّة، عشت في حيٍّ مسلمٍ ذي طابعٍ أبويٍّ محافظ، وقد كان جميع الأطفال الذين كنتُ عرفتهم وقتها ينحدرون من أُسَرٍ ممتدَّة الفروع يُمثِّل الأب فيها “ربّ الأسرة” بلا شكّ، أمّا في حالتي فلم يكن هناك أسرة ممتدَّة ولا أب ولا أشقّاء، فقط أنا وأمّي وجدّتي، ولأنَّ أمّي كانت أمّا عزباء عاملة، وجدّتي- التي تعمل كمعالجِة مِن نوعٍ ما- كانت مشغولة بمساعدة أناس آخرين، قضيتُ الكثير من الوقت بمفردي، فكان أن اعتمدت تنشئتي الاجتماعيَّة على الملاحظة، ما جعلني- على المدى الطويل ربّما- قويَّة الملاحظة، ومع ذلك ظلَّت هناك فجوة دائمة بين عيني والأشياء والأشخاص الذين رأيتهم، وفي بعض الأحيان كانت تلك الفجوة تُخيفني، فقد صادفتُ أشخاصًا مجانين في الشوارع، يحدّثون أنفسهم، أو يتشاجرون مع كائنات وهميَّة، ورايتُ اشخاصًا مشرّدين، يحملون بريقًا غريبًا في عيونهم، وفي كلّ مرَّة من تلك المرّات كنتُ أرتجف ارتجاف من يُحاول أن يحمي سرًّا قد ينكشف في أيّ لحظة. في النهاية لقد كنتُ أنا أيضًا غريبة. ألَم ترَ أمّي وجدّتي ذلك؟

ولأجل هذا عكفت على القراءة، كانت الكتب رفقتي العاقلة، والمجنونة أيضًا، هم أفضل رفاق حظيت بهم، وكلّما قرأتُ، اكتشفتُ “أرض القصص” أكثر، أودية وجبالا وأنفاقًا تحت الأرض..

-“انظري ماذا اشتريتُ لكِ” قالت لي أمّي ذات يوم، وهي تحمل في يدها دفترًا فيروزي اللون.

-“مفكّرات ..شخصيَّة لك، كي تكتبي فيها كلّ يوم”.

-“وما عساي أكتب؟”

صمتت قليلا… “أمم، اكتبي عن أيّامك..أفكارك.. لا أعرف، دوّني كلّ ما تشعرين به وكلّ ما تفكّرين به وكلّ ما تفكّرين فيه فحسب”.

وعندها فكّرتُ: “ما هذا الملل!”، لم أكن مهتمَّة بحياتي، بل كنتُ مهتمَّة بالحيوات خارج حياتي، بالعالم الذي وجدته في “أرض القصص” بالخلود والانفتاح والحرّيَّة، وبالتالي التقطتُ الدفتر وبدأتُ أكتب، لا عن نفسي، بل عن أناس لم يكن لهم وجود، وعن أشياء لم تحدث قطّ، ودون أن أدري عبرتُ الخطّ الفاصل بين الحقيقة والخيال، واصطحبتُ يوميّاتي الشخصيَّة إلى الحديقة البحريَّة حيث لا يذوب الحبر أبدًا بينما “يذوب كلّ صلب في الهواء”.

ومن ثمَّة شرعتُ أتردَّد على ” أرض القصص” كلّما سنحت لي الفرصة، لقد نشأتُ هُناك حقًّا، فأنقذتني الكتب من الرتابة والغضب والجنون وتدمير الذات، وعلّمتني الحبّ، بل وأكثر من ذلك بكثير، ما جعلني أبادلها حبًّا بحبّ ومن كلّ قلبي.

قرأتُ بنهمٍ وعاطفة وشوق، قرأتُ بلا هدى أو مخطّط أو نموذج يُحتذى به، رحتُ أقرأ أيّ شيء أعثر عليه وأُعيد قراءته، كان ثمَّة مجلَّد ضخم عن التفسير الإسلامي للأحلام بجانب سرير جدّتي، وكانت المئات والمئات من مفرداته تذكّرني بروايات “بورخيس”، ولقد أحببته لأنّه أثبت لي أنَّ كلّ شيء مُتاح للتفسير.

عندما التحقتُ بالمدرسة، اكتشفتُ “تشارلز ديكنز” والصدفة وحدها جعلت الكتاب يجد طريقه إليّ، فهو خاصٌّ بالصفّ الخامس وما كان له أن يوجد في مكتبة فصلنا وقوامها خزانة ذات عددٍ محدود من الكتب.

حُقّ القول إنَّ “قصَّة مدينتين” رواية فتنتني، كانت مختلفة عن أيّ شيء عرفته من قبل، تلك القصَّة التي لا تمتُّ لحياتي بصلة مخصوصة، ولكنّها وثيقة الصلة بالحياة عمومًا، ومن ثمّ بحياتي أنا أيضًا.

ظللت أقرأ مؤلّفات “ديكنز” فصار هذا المؤلِّف الإنجليزي من القرن التاسع عشر قرينًا لطفلة من أنقرة تعيش في أواخر السبعينات، ثمّ اكتشفتُ “ماركيز”، وشعرتُ بالنشوة. لقد جعل “غابرييل غارسيا ماركيز” الماء يتحدَّث، والأنهار تغيِّر مجراها، جعل قصص جدّتي وتفسير الأحلام وكتابات ديكنز والكتب الأخرى التي استعرتها من مكتبة المدرسة، بل وأفهمني الكيفيَّة التي بها نمضي على هذا الجسر جيئة وذهابًا بين الثقافة المكتوبة والثقافة المحكيَّة.

إنَّ الكتب هي من غيّرتني، ومن أنقذتني، وأنا أعلم في قرارة نفسي أنّها ستنقذكم أيضًا.
______
*أَلِفْ شَفَقْ: روائية تركية من مواليد 1971، تكتب باللغتين التركيَّة والإنجليزيَّة، وقد ترجمت أعمالها إلى ما يزيد على ثلاثين لغة. اشتهرت بتأليفها رواية قواعد العشق الأربعون سنة 2010، ولها العديد من الروايات الشهيرة.

**النص من كتاب “حياة الكتابة”، إعداد وترجمة: عبدالله الزماي، تدقيق وتحرير: رمزي بن رحومة، مسكيلياني للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2018.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى