حكاية الكتابة

عمَّ تكتبين؟

*د. مها العتوم

سأتحدَّث عن كتابة الشعر، عن المرأة حين تكتب الشعر، وعن الشعر وهو يكتب ويُكتب عن المرأة، عن الألم اللذيذ الذي تذهب إليه راغباً، وتتأهَّب على شرفاته منتظراً وطامحاً.

الكتابة طفل مدلَّل يحتاج أباً وأماً، أبا ليرفد بالمعرفة والخبرة والتجربة، وأمّا لتحمل وتلد وتربي الكتابة كأحد أبنائها، ولذا ففي الكاتب الرجل ثمَّة أنثى، وفي الكاتبة المرأة ثمَّة ذكر، هذان يقوى حضورهما في الكتابة، وأيّهما كتب فسيقرأ ويعرف، ويتزوَّد بالخبرة والعلم والتجربة من جهة، وسيحمل ويلد ويكابد المخاض والولادة من جهة أخرى، ثم سيمضي عمره، وهو يربِّي نصوصه ويهذبها، ويحسِّن فيها، حتى إذا أعياه التمليح والتصحيح انصرف إلى ولادة أخرى وفي نيّته أن يتلافى فيها أخطاء سابقتها، وأن يقول ما كان يريد قوله ولم يقله، حتى يموت الكاتب أو الكاتبة، كذلك النحوي الذي مات وفي نفسه شيء من “حتى”، وفي روحه ما لو أوتي العمر لقاله وكتبه، وما لو أوتي العافية والصحَّة لصحّحه وغيَّر فيه وبدَّل في بعض مواضعه.. يا للكتابة كم هي معاناة لذيذة، وورطة جميلة.. لا يحملها محمل الجدّ إلا من عانى وتورط.

قلت مرَّة عن الشعر:

من حلم في أعلى الليل يجيء الشعر،

من حلم ضوئي يسطع ثم يغيب، يجيء

وقد يتأخَّر، قد يتسلَّل مثل حرير الفجر

بالأمس رأيت الشعر على نافذتي، ففتحت له

وشممت العطر ونمت

فرأيت حدائق تركض فيها امرأة لا تشبهني

عند الصبح، تمشّى فوق يدي الشعر

وأهدى تلك المرأة وردة…

الشعر اشتباه الكلام بالحلم، في المنطقة الملتبسة بين الواقع والمتخيّل، إنه مزاج اللغة السحري بين الممكن والمستحيل، ولذلك يحمل الكتاب نبوءات تصدق، ويدَّعي البعض أن شياطين تزور الشعراء، كل ذلك لأن لحظة الكتابة فيها من اللبس والاشتباه ما لا يستطيع حتى الكاتب نفسه تفسيرَه. لكن الكتابة اجتهاد في القراءة والاطّلاع، وخوض الحياة وتجاربها دون خشية البلل والغرق، ومعاودة النظر والتحكيك والتهذيب للنصّ المكتوب، حتى يستوي نصّا يظن قارئه من شدَّة سلاسته وسهولته ألا جهد فيه، ويكون الكاتب قد بذل جهدين: الأوَّل في صناعة النص، والثاني في إزالة أثر الصنعة حتى يبدو للقارئ كما بدا.

والكتابة حبّ، ولا يكتب من لا يحبّ، الحبّ الواسع على مفردات الكون جميعها، الحبّ الذي يخلق ويجدِّد ويوسِّع العلاقة بين المبنى والمعنى إلى أقصى وأقسى مدى:

أتعرف ما يفعل الحبّ بالعطر

يجعله يسترد الحديقة

وتعرف ما يفعل الحبّ بالورد

يقطر ألوانه في الفراشات

لا فرق بين الفراشة والورد

في الحبّ

لا فرق بين مجاز الفراش

وورد الحقيقة

وتعرف ما يفعل الحبّ بالشعر

يخطف بحرا بأسماكه

لجنيَّة في كهوف الكلام

ترى في الظلام

وتهذي:

إذا صدق الموج ننجو

وإن غرق البحر.. أنت الغريقة

لقد بدأت الكتابة، وأنا أتتبَّع أثر خطى من سبقوني، أحببت الشعر، وحفظت قصائد طويلة للمتنبّي وطرفة وأبي القاسم الشابي، وبدأت بالشعر العمودي، وكنت أعي ثقل مسؤوليَّة الكتابة، لأنَّ مجرَّد النظر إلى تراث العرب الشعري يصيب المبتدئ بالهلع، قامات عالية، وشعر رصين له مقولاته وخطاباته، ونشرت أولى قصائدي في جريدة للطلبة في جامعة اليرموك بعنوان “يوميّات حطابة” وفيها أتلمَّس تعب الشعر والكتابة، وأقرن التحطيب بكتابة الشعر:

غيمي فقلـبي ممطـر أرقا              روحي ضباب ينتضي أفقا

حطبت كل اليوم في نزق          وركبت موجا عاد محترقا

حتى أقول:

فإذا طوت ذي الشمس رايتها             لتنيمها في حضن من عشقا

تصحو الهموم العاصفات به         عيـنا تــرى إنسانـها غــرقا

هل بالقوافـي ينطـوي تعــب        للشعــر كالتحطيب قـد خلقا

لكني وأنا أتتبَّع خطى الشعراء الكبار، كنت أفتِّش عن خطوتي وطريقي، كنت أبحث عن كلمة ولو واحدة أقول بها نفسي لا سواي، ليس لأن الشعر الحديث ذاتي، ولكن لأن الشعر طريق وطريقة تخصّ واحدا/واحدة وتميّزه/تميّزها عن سواه/سواها، حين يكون الشعر صادقا في التعبير عن صاحبه وعن زمانه وعن مكانه، عن رؤيته المختلفة عن الآخرين للعالم ومفرداته، عمّا يخصّني في هذه اللحظة في الزاوية الصغرى من العالم التي لا يوجد بها سواي، ولذلك حين شققت طريقي لم أنظر إلى أغراض الشعر العربيَّة الكبرى، ونظرت إلى ذاتي وأغراضها وهمومها التي لا تنفصل بالضرورة عمّا يدور حولي، أكتب عن الوطن كما أراه: أحبّ الأردن والطفيلة وجرش، ولكني حين أكتب أفكِّر أني من صناعة سوف وجبالها وزيتونها وتينها، ومن صياغة إربد وجامعتها وسروها وتجاربي فيها… وأصعب سؤال يوجَّه لي: عمّ تكتبين؟ أكتب عما أحسّ به، وعمّا يلامس روحي في لحظة ما حتى يدفعني دفعا إلى أقرب قلم وورقة، ولا أدافع عن النساء ولا أومن بالنسويَّة ولا بجمعيّات حقوق المرأة، المرأة هي الإنسان الخاصّ المقابل للرجل كالوجه الآخر للعملة لا يختلفان ولا يشتبهان، أقرأ كالرجال، وأكتب كامرأة، وأرفض أن تعامل كتابتي كأنها لمخلوق ينبغي التنازل عند الحكم عليه، لا بد أن يقيس التاريخ كتابتي بكتابة الرجال في المستوى الفني والجمالي، وبمشاعر النساء وخصوصيَّة تجاربهن في المستوى الموضوعي، لإربد كتبت:

قرب مكتبة الجامعة

في المقاهي القريبة من وجع القلب

من شارع يتمشَّى إلى اليوم في الدم

شارع إيون

والعابرون عليه إلى اليوم

قد يخدشون دمي

أنت ما زلت حيث تركتك

بين الصديقات والذكريات

التي علّمتك الكتابة

أو بدلتك الكتابة بالسرو

ما زال أخضر

ما زلت خضراء

لو يرجع النهر

تسترجعين التدفق في ماء اربد

من لذة صوب أخرى

ومن خيبة صوب أخرى

ومن لحظة تقبضين عليها

ثلاثين عاما

ويفلتها الحبر في اللغة الماكرة

تلك إربد

أم أنت

أم خضة العطر بعد الغياب

ونشوتها الحاضرة

تلك إربد/أنت

من الموت حتى الولادة في الروح والخاصرة

وكتبت عن العمر وسكينته التي تمضي في الجسد والروح، وأنا أقطع الثلاثين وأمضي إلى الأربعين:

لا أعرف الفرق

بين الثلاثين والأربعين

محوت دفاتر عشر سنين

لخطي الرديء عليها

وما زال خطّي رديئا

وما زلت أمحو، وأكتب كالآخرينْ

الحياة الكتابة والمحو

والموت فضح الكناية والصحو

واللاكلام المبينْ

لذلك مري من الأربعين بلا لغة

واعبري في المجاز كأنك لا تعبرين

وطيري كان الحياة جناحاك

والضوء بين الحياة وبينك

حتى تري بسقوطك في الضوء

حكمة قلب الفراشة

بين الضلال وبين اليقين

وغني بصوت نوافذ مشرعة للحنين

غني مع الريح

لا فرق.. لا فرق بين الثلاثين والأربعين

إنه ثقل الشعور بالزمن في هذا النصّ القصير، إن اللافرق الذي أبديه على الصفحة هو الفرق الذي أشعر به وأحاول تبديده، إنه التداوي بالكلام، والعلاج بالشعر، ورأب الصدع بالزمن بخطّ هذه المصالحة بيني وبين عمري الجديد بقصيدة، أتحدَّث عن نفسي وعمري، وعن كل امرأة وعن كل رجل يشعر بشجن هذه اللحظة، وهو يعبر من محطَّة إلى أخرى، ومن عمر إلى سواه، ومن تجربة إلى سواها. كتبت عن المرأة، وهي تحدّق في ذاتها وترى النساء اللواتي يتصارعن فيها، وكتبت عن الحبّ والحرب والليل والحنين والولادة والخذلان، وكامرأة قاربت بين الشعر والتكنيس:

كنست كأم مثابرة في حياتي

زجاجا كثيرا

وجمعته في القصائد

حتى يصير نوافذ:

نافذة للحنين

ونافذة للأنين

ونافذة للغناء

ونافذة للبكاء

نوافذ شتى

ترى خللا فادحا

حين تنظر منها

أراه ما تراه

وأكنس

ما دام قلبي قويّا وحيّا سأكنس

… ما زلت أكنس

وأخيرا، يعزّ علي أن أختم كلامي ولا أفكِّر بأولئك النساء، أجمل النساء:

النساء اللواتي يجرجرن عتمتهن

ليرفعن فجرا يضيء الكلام

النساء اللواتي ثكلن بأفراخهن

ليطلقن سرب الحمام

نساء فلسطين    

والعائدات بأكفان عشاقهن وأزواجهن الخفيفة

من مصر حتى حدود الشآم

عليهن

دون النساء السلامْ. ________

*مها العتوم: شاعرة وأديبة وأكاديميَّة أردنيَّة،  تعدّ من أبرز الأصوات الشعريّة النسائيَّة العربيَّة، لها عدّة دواوين شعريَّة،  تحمل الدكتوراة في الأدب العربي. حاصلة على جائزة الدولة الأردنيَّة التقديريَّة.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

زر الذهاب إلى الأعلى