*لانا المجالي
“نحنُ الشُّعراء نصارعُ اللاوجود لنجبره على أن يمنحَ وجودًا، ونقرع الصَّمتَ لتجيبنا الموسيقى.
أننا نأسر المساحات التي لا حدَّ لها في قدم مربِّع من الورق، ونسكبُ طوفانًا من القلب الصَّغير بقدر بوصة”[1].
لوتشي[2]
(1)
الأُغْنِيَةُ أكثر ديمومة من حنجرة صَدَحَت بكلماتها. الموسيقى خالدة حَتَّى لو مَاتَت كُلّ العَصَافِير.
(2)
الشَّاعِر؛ رجلٌ بالغٌ عاقلٌ، تَعْتَريه حالةٌ من الوهم بَيْنَ وَقْتٍ وَآخَرَ، يعتقدُ خلالها أنه الطّفل شادي المُبتَلى بغواية الأغصان العالية.
الشَّاعِرة؛ طفلةٌ هادئة تعتريها حالة من الوهم بَيْنَ وَقْتٍ وَآخَرَ، تعتقد خلالها أنها المرأة وداد الحُبْلَى في شهرِها الخامس دون أن تَسْلَم من مُعاناة الوِحَام.
القَصيدة؛ جرحٌ عميقٌ في رُكْبَة شادي، وما يشبه رَسْم تُفَّاحة أعلى ذراع وليد وداد.
الشِّعر؛ شجَرة دائمة الخضرة في وادي الجِنِّ، وفي روايةٍ أخرى، سُرَّة في بطن حوريّة انقطعَ حَبلٌ كان يربطها بالبَحر.
(3)
عندما مرَّت جنازة قريبي الشَّاب العازِب من تحت شرفة بيت العزاء المخصَّص للنِّساء، فَقَدت امرأة وعيَها وسقطَت أرضًا، وصرخَت ثلاث فتيات ملء فجيعتهن، وبكَت نِساءٌ كثيرات، أو تظاهرن بذلك.
ثمّة فتاة؛ فتاة واحدة انْفَرَجَتْ شَفَتاها عَنْ ابتسامةٍ وهي تراقب المشهد بصمت، وفي لحظةٍ ما، رَفَعَت يدها اليُمنى مُلوِّحة للموكب الحزين، وعَلَت تقاسيم وجهها حُمْرَةٌ مُحَبَّبة تُفصِحُ عن حياءٍ عَفيف، قبل أن تسارع إلى سَتْرِ ارتباكها بشالٍ أبيض كان مُلقىً بلا مُبالاة فوق كَتِفَيْها.
عرفتُ، لاحقًا، أنّ المَليحةَ المشرقة كانت حبيبة الشَّاب الرَّاحِل، ولم أقرأ حتَّى اليوم ما يضاهي تلك الصّورة الشِّعريّة بلاغةً وصِدقًا.
(4)
القَصيدةُ مِحْنَة الشَّاعِر، ورغبته الجارفة في دعوة فتاة قرويَّة كان قد رسمها بقلم الرَّصاص على حائط غرفته إلى حفلٍ راقص في فيلمٍ السَّهرة الأجنبيّ، لو كان يتقِنُ الرَّقصَ دون حذاء!
المَجاز مِحْنَة الفتاة القرويَّة المُتيَّمة بالبطل مفتول العضلات في فيلم السَّهرة الأجنبيّ.
اللغة مِحْنَة المعنى. الشّعر مِحْنَة الشّعر. الشّاعر مِحْنَة الجميع.
(5)
يتسكَّعُ عبر شوارع المخطوطات العتيقة وأزقَّة الإصدارات الجديدة في المكتبة العامَّة. يَنصِبُ خيمته تحتَ سماءٍ مُقْمِرة. يُلقي شبكته في النَّهر الميِّت. يطرقُ أبوابَ البيوت المَسكونة بالجنيَّات. يتشرَّدُ في المعنى. يضعُ يده في جيبِ بنطاله المهترئ ويصفرُ بلحنٍ حَميم!
من أين يجيء الشِّعر؟
من تلك المنطقة المجهولة التي لا نعرفها. من الأشياء المهمَلة التي نتعثَّر بها، فجأة، ونحنُ نَخوضُ حُفَاةً في نومِنا الليليّ (… دميَة فقدت ذراعها وشَعِثَ شَعرها الأشقر. فردة حذاء أحمَر بكعبٍ عالٍ. حقيبة الأدوات الرّياضيَّة المفتوحة. مُجسَّم “بات مان”. كِتاب العلوم للصَّف الخامس. كوب الحليب البلاستيكيّ)، نَقَعُ مِنْ أعلى الحالة اللاشعريَّة شِعرًا. نشجُّ رؤوسَنا. تنكَسِرُ سيقاننا، وتنهضُ القَصيدة.
أنْ نبحَث عن الشِّعر في كل ما لا يبدو أنَّهُ شِعر ولا يؤدِّي بالضَّرورة إليه؛ الإيحاء. المُضْمَر، وما لا يُقَال من الصَّمْت الطَّويل. الثَّقيل. البَليغ.
(6)
الشِّعر لا يولَد من شيء، بل يولَد مع شيء؛ ليس صوْته بل صَداه.
الشِّعر ثورة ضدّ قوانين الشِّعر؛ حالة خلافيَّة مع نفسه ومع الشَّاعر.
الشِّعرُ خيطٌ نَحيلٌ بين اليقظة والحلم، بين الدَّاخل والخارج، بين الانغلاق على التَّجربة الشَّخصيّة والانفتاح على الشَّارع العام بمسربين، بين العَتْمَة والضَّوْء، بين الرَّؤيا والتَّأويل، بين الفن والفلسفة، بين المُمكِن والمستحيل.
(7)
في مسألةِ الجماليَّة والفعاليَّة؛ الشِّعر جَدوَى الشِّعر.
القصيدة غاية القصيدة؛ فهي لا تُعالج فقر الدمّ والتهاب المفاصل والصُّداع النِّصفيّ، ولا تزوِّدُ سكَّانَ القطب الشَّماليّ بفيتامين “د”، أو تَقي من آثار تصبُّغات الشَّمس، أو تُقدِّم خَدمات الإغاثة العاجلة لضحايا القَصف العشوائيّ. ليست كتاب التَّأريخ ولا الجغرافيا، ولا نشرة أخبار الثَّامنة مساءً، وليست ضليعة بحلِّ معادلات الجذر التَكعيبيّ.
القصيدةُ تلميذ يحصدُ العلامة “صفر” في اختباراتٍ صاغَ أسئِلتها بنفسه. الباب الموصَد مفتاحه فوق العَتَبة. العرض المسرحيّ بستارةٍ مُسدَلة.
القَصيدةُ أضْعَف من الرَّصاصة، والقنابل العنقوديَّة، والاستبداد، والتَّهجير، والظُّلم، وقضبان السِّجن، ومحاكم التَّفتيش الجديدة، والتَّمييز على أساس العِرْق والدِّين والجِنس والهُوِيَّة.
القصيدة أجبَن من حَرب. أقصَر مِنْ شجرة ورد. أَقَل بلاغة من بيان انقلابٍ عسكريّ، وأكثر هَشَاشَة من ذِكْرى حبٍّ قديم، فلنتوقف عن تحميل أكتافها حقيبة ملابسنا الشَّتويَّة، أو كما قال بيلي كولينز[3] :”ربطها إلى كرسيّ، وتعذيبها حتَّى تَعتَرِف”[4] أو”جلدها بخرطوم لمعرفة ما الذي تعنيه حقًا”، ولنهتف مع مارينا تسفيتاييفا[5]:
” كُلّ شيءٍ أعْطَى- مَنْ أعْطَى أغنية”[6].
(8)
من العَبَث أنْ يكون المرءُ شاعرًا. من العَبَث أن يكون عصفورًا في مرمى بنادِق الصَّيَّادين.
من العَبَث أن يموتَ على حافة العالم وهو يَحمي قصيدته من الإيديولوجيا والطَّائرات والرَّصاص الرَّخيص.
من العَبَث أن تبقى في جعبته أغنية أخيرة، تقول:
بخمسِ شجرات غابٍ
يابِسَة
في كفيَ اليُمنى
أعزِفُ كيْ يرقصوا؛
أولئك الذين سرقوا الموسيقى
وحوَّلوا مجرى النَّهْر عن جَسَدي
جَسَدي النَّاي
نهر العِنَب
أولئك السُّكارَى
أعزفُ كَيْ يسمعَني البَحَّار؛
البَحَّار الذي لا يَنام
يأخذُ بثأري
يوقظهم
.. حتَّى أنام.
________
* النصّ من كتاب ( على ساقٍ واحدة.. سير معرفيَّة)/ دار لوسيل للنشر/ الطبعة الأولى 2018.
** لانا المجالي: شاعرة وكاتبة أردنيَّة، صدر لها أصدرت مجموعة شعريَّة (برد وكستناء ويا رب مطر)/ كتاب ( على ساقٍ واحدة.. سير معرفيَّة)/ شاركت في عمل شعريّ عربي مشترك (77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج)، إعداد وتقديم فاطمة بوهراكة، المغرب، الطبعة الأولى 2018.
[1] الشِّعر والتَّجربة، أرشيبالد مكليش، ترجمة: سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة: توفيق صايغ، دار اليقظة العربيّة 1963.
[2] شاعر وقائد صيني حُكِم عليه بالموت عام 303م لخطأ ارتكبه وهو أنه خسر معركة، انشغل قبلها بكتابة ما يسمّى “فو” / FU، وهي قصيدة نثريّة مطوَّلة تحدَّث فيها عن الأدب عامة وعن فن الشعر خاصّة/ المصدر السابق: الشِّعر والتَّجربة، أرشيبالد مكليش.
[3] شاعر أمريكي ولد عام 1941، نال لقب “شاعر أمريكا المتوّج” بين عاميّ 2001 و2003. من دواوينه: “بالستيات” 2008، “المشكلة مع الشعر وقصائد أخرى” 2007، “تسعة جياد” 2002، “الإبحار وحيدًا حول الغرفة” 2001، “نزهة، صاعقة” 1998، “فن الغرق” 1995، “التفاحة التي أذهلت باريس” 1988.
[4] “أوزّةُ الشتاء تنبحُ في السماء”، بيلي كولينز، اختارها وترجمها: سامر أبو هواش، كلمة ومنشورات الجمل 2009.
[5] شاعرة روسيّة (1892-1941)، دواوينها: “الألبوم المسائي” 1910، “معسكر البجع” 1917، “الفراسخ” (1921-1922)، “الحِرفة” 1923.
[6] “كبرياء جريح”- قصائد مُختارة، مارينا تسفيتاييفا، ترجمة وإعداد: إبراهيم استنبولي، كتاب دبي الثقافي ويوزّع مجانًا مع المجلة العدد 82، الطبعة الأولى 2013.