*سميحة خريس
للكتابةِ دورٌ علاجيٌّ بالنِّسبةِ لي، أو للكاتب، هي كما يصِفُها صديقِ الحِبر “أورهان باموق” حين يرى في الكاتب مريضاً كما مريض السكّري الذي يحتاجُ إلى إبرة الإنسولين اليوميَّة، هكذا الكتابة دواءٌ لنا، جرعةُ السعادةِ التي دونها نَعلَقُ في أحزانِنا.
لا أضمُّ صَوتي للقائلين: “إنَّ الكتابةَ مجرَّد مُعاناةٍ وقلق”، كامرأة يُمكنني إرجاع أهمّ شَكلٍ فيزيائيٍّ للمُعاناة، إلى لحظة الولادة، حين ينبثق مِن الألم صياحُ طفل، أملٌ جديدٌ للحياة، هذه هي الكتابة في أعتى درجات قسوتِها، ولكنَّها مساحةٌ رحبةٌ للتخفُّف مِن الألم، وإنْ كانت تُعنى بألمِ الإنسان، وتبحثُ فيه، وتفتحُ جروحه المسكوت عنها، يحضرني هنا أبلغ ما قرأتُ مِن وصفٍ عن الكتابة، للروائي الإسباني “خوان خوسيه مياس” في روايته “العالم”، حين شبَّهَ الكتابة بآلة يستخدمُها الجرّاحون، تَفتَح الجُرح، وتكويه في اللحظةِ نفسها، موقِفَةً نزيف الدَّم، ذلك هو شأن الكتابة، إذا كانت لا تُداوي الجُرح المفتوح، فإنها على الأقل، تَمنَع النَّزيف.
إنِّي أنزفُ وأحتاجُ إلى كيِّ الكتابة.
فوق هذا فإنَّ الكتابة قدَّمَتني وعَرَّفتني إلى شخصٍ بالغ الأهمّيَّة في حياتي، شخص لو لم أعرفه لتَهتُ تماماً، لكان وجودي عبثيّاً، عَرَّفتني الكتابة إلى نفسي، بِتُّ قادرة على فهم نوازعي وتفسير رغباتي، وتحسُّس طموحي، واكتشاف نقائضي وهِناتي، كما أمكنني رؤية مزاياي وما هو جميلٌ ناصعٌ بديعٌ فيّ، بِتُّ لأتحرَّكَ بليونةٍ ما بين كهفي ومرآتي، أراني مِن الخارج والداخل، كما أراني بين الحروف، صَنَعَت الكتابةُ محبَّتي لنفسي، وقَرَّبتني مِن ذاتي لأحبّها ثمَّ أُحبّ الكون مَعها.
كانت الحياةُ كريمةً معي، مَنَحَتني خبراتَ متزايدة، وما تزال تفعل، طَوَّفَت بي في أرجاء الكون شرقاً وغرباً، إقامةً، ومروراً عابراً، وجَدَّدت مشاهد عينيّ، والروائح والأصوات، وألوان البشر، وأنماط البيوت، والأسرة، وطعم الملذّات، كما وقع التّجارب، عشتُ الحياةَ بعمقِها، وطولِها وعرضِها، أحبَّتني وأحبَبتُها، حتى في أوقات الخسارات والفَقد، كنتُ رابحةً دوماً، أتعلَّمُ مِن الدَّرسِ الأليم، أكثر ممّا أتعلّمُ مِن الفرح، أقبلتُ على كتاباتي بتلك الرّوح، ممزوجةً بالتحدِّي، حتى لا أُحسَب على فئةِ البوّاحات البكَّاءات الصائحات مثلاً، أو خانةِ المُوَثَّقين المُثقلين برصانةِ الفِكرة، تركتُ كلَّ معرفةٍ تنقُطُ نُقطَةً في وعائي، وكلَّ شعورٍ يرسمُ خطّاً على قُزحِ الكلام، تَعاملتُ مع مشروع الكتابة بالجدّيَّة التي يستحقّها، وبإدراكٍ كاملٍ لدَوري، وأنا أضعُ بصمتي بين مليارات البصمات التي تتركها البشريَّة، تدلُّ عليها قبل أن تمضي.
لم أشغَل بالي ولن أفعل، بالصراعات الصغيرة حول مفهوم الكتابة، والنَّوع الأدبيّ والتصنيف، وما يلزم وما لا يلزم، ومكانة الرواية، مقارنة بالشِّعر والقصّة، وخلاف تلك القضايا التي يصرف النُّقاد جُلَّ وقتهم فيها، ولَعلَّ تلك مهمّتهم، المرتبطةُ بِعلم النَّقد، ولكنّي أرى أنَّ الكاتب غير معنيٍّ بالتنظير حول تلك المسائل، بقَدَر ما هو معني بفهمها، والعمل على أدواته، ولغته، والشكل الذي يقدِّم بهِ نصّه، وعالمه المتخيَّل، والتجديد الذي يُريد، والإضافة التي تُميِّزه، لهذا أتابع نموّ أيّ نصّ لديّ، بخوفٍ شديد، أحاولُ أن أعرِفَ أيّ جديدٍ جاءَ بهِ، ومبرِّرات كتابتِه، أُحاكِمُهُ، قبلَ أن يُحاكمَهُ الآخرون، وأرهنهُ لدورٍ يُعبِّر عن فهمي للحياة، وأحلامي للحياة، وأحلامي بمستقبلها، ربما لهذه النقطة بالذات يصير عسيراً على الكتابةِ أن تنجلي.
يحاصرني الإحساس بأنَّ البشريَّةَ تَمرُّ بمتغيّرات كبيرة، قَلَبَ القرنُ صفحتَهُ، والحياة على وشكِ أن تتغيَّر، في ذلك المفصل الزمنيّ الخطير، على الفنّ الروائيّ أن يتقدَّم ليقوم بمهمّة استجلاءِ اللحظة، ولينظرَ إلى الخلفِ قارئاً ما حدث، ولكنِّي خائفة مِن عِظَم المهمَّة، لا أريد أن أنظَر نظرةً تحيلني إلى عمودٍ مِن ملح، وتحبس خطواتي في المكان إلى الأبد، ذلك إني أطمح لو أمدّ إصبعي مؤشِّراً باتّجاه الدّرب الذاهب إلى المستقبل، مِن هذه الحركة الكونيَّة الكبيرة، تأتي أهمّيَّة الرواية القابضةِ على أثمنِ ما أنجز الإنسان، والحافظةِ لحكاياته وإنجازه، كي يقرأها جيلٌ قادمٌ، بوعيٍ جديدٍ، إنها إحدى وسائل الفنّ العظيم، في ربط الزمان ببكرات مُحكَمَة، فلا ينفلت ترسٌ حديث، عَن قَديم، ولا تضيع خطوة في تكرار التجربة، إنها “شيفرة” دقيقة، تحفظ للذاكرة توقُّدَهَا، وتحول دون البشريَّة والنسيان، فكلّ ما نعرفه اليوم، وما عرفه أجدادنا، مُقبِلٌ على ضياع، وإنّا له لحافظون.
أليسَت تلك مهمَّة الحرف؟ أليست هذه ورطتي؟
سأكتب، ستطاوعني معشوقتي الكتابة يوماً، وأكتب؛ للجمال وللحقّ وللحبّ والخير، والحرّيَّة.
أعرف إنّي مثل سواي من الكُتَّاب، على مرِّ العصور، لن نجدَ الإجابة الشافية ولا الحلّ الناجع، ولكنّنا موثّقون بالحلم، أسرى للأمل.
حين تملَّني الكتابة أُصابُ بالذُّعر، ذُعر الذي نظرَ في المرآة ولَمْ يَرَ شيئاً، أخافُ انقضاءَ العُمر ولم أقبِض على فراشات الأفكار، ولا أخرجتُ كنوزي من مخائبها، ولا حَبَّرتُ الفراغَ الذي يتقاذفني، وما رفعتُ جدارَ البيتِ بحجرٍ أصيل، مع ذلك أواصلُ تقدُّمي باتّجاه ما يهرب منّي.
سأكتب: لأقول، لاعترض، وأؤثر فيكم، لأسجِّلَ موقفاً في الحياة، في خضمِّ المواقف المُتباينة، لأتمتَّعَ وأُمتِّعكم، لأتداوى وأداويكُم، لأتركَ للحياة أثراً منّي بينكم، لأعيشَ أكثر، لأفهمَ أكثر، لأتواصلَ مع عالمٍ يقرؤني، اليوم، وغداً، وبعد الموت، لأمنعَ أشيائي وأشيائكُم الجميلة من الضياع، لأتركَ اسمي على جذعِ شجرةٍ معمِّرة، لأهزَّ الأشجار الصامتات.
أعتقدُ أني أحرثُ في أرضٍ قاسيةٍ للوصول إلى الإنجاز الإبداعي الحقيقيّ..
وهَبَني الله عقلاً محلّقاً يطير كل مساء متسلّلاً مِن زيقٍ في النافذة، إلى عالمٍ واسعٍ رحبٍ خياليٍّ أُمارِسُ فيه حرّيّتي، أجنحتي حبر القلم، وصدر الورقِ عالمي، والكتابة حرّيّتي البديلة، كيف إذاً لا أشتاقُها حدّ الوَلَه؟
نكتبُ لنحيا ولكنّنا لن نكتب إذا لم نَحيَ أساساً، أقصِد الحياة مع الآخرين والأشياء والأفكار، لا في معتزَلٍ تأمّليّ، وإن كنتُ لا أقلِّل مِن قيمة التأمُّل لكنَّ هزّة الحياة أشدّ وقعاً وأنجَع في تحويل المرء إلى كاتبٍ حقيقيّ، الابتعاد عن الحياة سيحرِمُنا الحبّ والكراهية، سيحرِمُنا الضحكات والدموع، وقد انغمستُ في كلّ شيء حتى الملل.. ماذا مِن جديد؟ أضحَت الدّهشة عزيزة بعيدة لا بدّ مِن شدِّها من ياقةٍ لا تنقطِع.
كلّ ما أعرفه في حياتي في خدمة تلك المهمَّة المُقدَّسة… الكتابة.
_______
*النصّ من كتاب سميحة خريس (خرابيش الحرف على الروح؛ بحث في الكتابة.. بهجتها وأزمتها)/ دار الآن ناشرون وموزّعون/ الطبعة الأولى 2016.
** سميحة خريس: روائيَّة أردنيَّة ولدت في عمَّان . درست المرحلة الابتدائيَّة في قطر، ثم انتقلت إلى السودان وهناك أتمّت دراستها الثانوية. تخرَّجت في جامعة القاهرة وحصلت على الإجازة الجامعيَّة في الآداب. صدر لها ثلاث مجموعات قصصيَّة، وخمس عشرة رواية، وكتاب في أدب الرحلات. حصلت على عدّة جوائز منه؛ جائزة الدولة التشجیعیَّة من وزارة الثقافة عن رواية ”شجرة الفھود“ عام 1997،المیدالیة الذھبیة للعمل المتكامل من مھرجان القاھرة للأعمال الدرامیة عام 2002، جائزة ”أبو القاسم الشابي“ في تونس عن روايتھا ”دفاتر الطوفان“ عام 2004،
جائزة الإبداع الأدبي من مؤسَّسة الفكر العربي في بیروت عن مجمل أعمالھا عام 2008، جائزة الدولة التقديريَّة في الآداب (بالاشتراك) عام 2014، وسام الحسین للعطاء الممیّز عام 2015،جائزة كتارا للرواية العربیة – فئة الروايات المنشورة لعام 2017 عن رواية ”فستق عبید”.