*بنخامين برادو/ ترجمة: أحمد محسن غنيم
ما الذي ليس شعرًا؟ هل هناك أشياء لا يمكن كتابة قصيدة عنها؟ أو على النقيض، هل الشعر- كالمسرح والرواية – نوع أدبي قادر على التكيّف مع أيّ موضوع وتناوُل أيّ أمر؟ بالطبع لا يزال الكثير من الأشخاص مستعدّين للردّ إيجابًا على السؤال الثاني، ونفيًا على الثالث. يُجيبون أن الشعر ينتمي لعالم الغابات والملائكة، ويقع تحت سُلطة الليل، ويتعلّق بالأشياء الجميلة والأحاسيس الصادقة، وأنه عندما يكتب أحدٌ قصيدةً ما فإنه يكتبها ــ قبل كلّ شيء ــ ليقول الحقيقة.
ما من شيء صحيح في هذا. وليس غير صحيح فقط، وإنما من بين كلّ الأفكار التي يُمكن أن تكون لدى أحد عن الشعر، هذه هي أكثرها ضررًا بالشعر. إنَّ جزءًا كبيرًا من القصائد الرديئة الموجودة كُتِب باسم الصدق والجمال والمشاعر الطيّبة؛ ربّما ظنًّا أن هذا يكفي؛ أنّ تسمية ضوء القمر أو تشبيه امرأة بتمثال يكفيان ليولَد ما نُسمّيه شعرًا. ومع ذلك، فهذه نظرة سطحية.
إن القصيدة العظيمة لا تُحَدُّ بوصف الأشياء ولا بإحصائها، وإنّما تخترعها أو تنشئها، تنتزعها من الظلمة وتُحيلُها أشياء أخرى. إن القصيدة العظيمة ليست قائمةَ جردٍ لكنزٍ ما، بل هي طريقة للتنقيب عنه. ليس الشاعر المؤثّر ذلك الذي يحدّثنا عن القمر، ولا الذي ينجح في أن يوهمنا أنّنا نتأمله. الشاعر المؤثّر هو الذي يُفسّرُ لنا شيئًا لم نكن نعرفه عن القمر، هو الذي ينجح في أن يجعلنا نعجز عن النظر إليه كما كنّا ننظر إليه من قبل، فنراه بصورة أكمل، مثلما يحدث حينما نعرف شيئًا كنّا نجهله عن السماء، وربّما عن أنفسنا نحن. وهذا أمرٌ متحقِّقٌ بالحديث عن القمر أو عن وردة، لكنه يتحقّقُ كذلك بالحديث عن بَصَلة بسيطة، كما يفعل الشاعر الاستثنائي بابلو نيرودا في إحدى قصائد ديوانه “أناشيد ابتدائية”:
“بصلةٌ،
مضيئة ككوكب،
مخلوقة لتلمعي،
مجموعة من النجوم ثابتة،
وردة مستديرة من الماء
على طاولة الفقراء.
كريمة
تفكّين الكرة الطازجة
في الإناء الذي تنضجين فيه بحرارة،
وعلى حرّ الزيت المشتعل
تستحيل قطعة الزجاج
ريشة مجعّدة من الذهب
سأتذكّر أيضًا كيف لقّحَ أثركِ
حُبُّ السلطة
ويبدو أن السماء تساهم
بمنحك تلك الهيئة الرقيقة لحبّة بَرَد
لتحتفي بصفائك المبشور
على نصفَيْ ثمرة الطماطم.
[…]إنني احتفيتُ يا بصلة بكلّ ما هو كائن،
لكنّكِ عندي
أجمل من طائر
ذي ريشٍ لامع
أنت في عيني
كرةٌ سماوية، كأسٌ من البلاتين
رقصةٌ بلا حركة
لزهرة من شقائق النعمان تساقطت عليها الثلوج…
ويعيش عطر الأرض
في طبيعتك البلّورية”.
إن قراءة هذه الأبيات بلا شك عمليّةُ تحوُّل حقيقية، وهي بالمثل نوعٌ من الإقرار بأن مالارميه لم يُخطئ حين كتب أن العالم خُلِق ليكون في كتاب جميل. العالم كلّه، بكلّ غروب شمس وكلِّ بالوعة، بكلّ بصلة وكلّ جرف. ومع ذلك، فالطريق نحو قلب الأشياء ــ والذي يقع، كما رأينا في هذين المقطعين من قصيدة نيرودا، داخل الأشياء ذاتها، لكنه أيضًا يتجاوزها ــ ليس سهلًا، ويتطلّب عملًا دؤوبًا ومعقّدًا. يستلزم صراعًا غير متكافئ مع المعاجم وقواعد اللغة لإيجاد الكلمات الضرورية من بين ملايين الكلمات المحتملة؛ لأنّ هذا هو أوّل إحساس تُثيره قصيدة جيدة، إحساس أنها صُنِعت بالضبط من الكلمات التي احتاجتها لتقول ما تقوله بالطريقة التي تقوله بها.
إن فكرة العمل الشاق هذه بالطبع عكسُ فكرةٍ أخرى واسعة الانتشار ولها مكانة غير مستحقّة، كما أنها أيضًا ربما تكون ــ بصورة يستعصي إصلاحها ــ قد ألحقت ضررًا بالشعر وبمفهوم كثير من الناس عنه: فكرة الإلهام. ما هو الإلهام؟ هل هو طريقة لإنشاء علاقة مصاهرة بين الشعراء والآلهة؟ أو طريقة للإشارة إليهم كأنهم كائنات خارقة للطبيعة ومختلفةٌ عن بقيّة البشر، نصف بشر ونصف ما ورائي؟ هل هو طريق مختصر للوصول إلى الهدف دون ركض، أو لإدراك النصر دون خوض المعركة؟
يقول بول فاليري: “ينحصر الشاعر المُلهَم في تسليم ما يملكه من المجهول إلى مجهولين”. من جهتي، أظنّ أنه جرى تجاوُز هذه المسألة، إلا إن كنّا مستعدين لأن نسمّي شيئا آخر بالإلهام، ذاك الذي يحدث في اللحظة التي يجد المرء فيها الصفة الملائمة أو التشبيه المناسب بعد البحث عنه لساعات أو أيام؛ تلك اللحظة التي يعرف فيها المرء أن البصلة هي أيضًا وردة مستديرة من الماء وكأس من البلاتين وزهرة من شقائق النعمان عليها قطع الثلج. لكي يحدث هذا، لا يحتاج الشاعر المطبوع عادة إلى بذل جهد كبير، إلى أن يشطب ويعيد ويحذف مئات من الاختيارات حتى يصل إلى ما يريد، مثلما يفعل عامل المنجم الذي يَمضي بصبر وإصرار في هدم كلّ ما ليس ذهبًا وتنحيته جانبًا، كلّ ما يبعده أو يفصله عن الذهب الذي يبحث عنه. إننا بصدد عملٍ مُضنٍ وفرديّ مليء بأسئلة دون إجابة وبمتاهات دون مخرَج، لكنه عمومًا الطريق الوحيد. قال ويليام بتلر ييتس: “بِجَدَلِنَا مع الآخرين نصنع البلاغة، وبجَدَلِنَا مع أنفسنا نصنع الشعر”، وكان على حقّ.
يستلزم الوصول إلى القصيدة ونقلها إلى ذلك الجانب المتجاوز عادةً الذهاب بعيدًا جدًّا في ذلك الجدل الذي كان ييتس يتحدّث عنه. ولنتذكّرْ أنه لا يكفي إحصاء أو عكس الأشياء، أنّ حزن غابة خريفية لا يُعاد إنتاجه ويوضع على الورق بقياس أقطار الأشجار وحرارة الجوِّ وسرعة الرياح، ولكن بتحويله إلى شيء آخر، إلى شيء يكون قادرًا على تلخيصه كقدرتِه على تجاوزه، بتلك الطريقة التي يكتب بها رفائيل ألبيرتي على سبيل المثال إحدى قصائد ديوانه “مفتوح في كل ساعة”، وهو نصٌّ قصير وبسيط بطريقة غير عادية ويتضمّن أشياء كثيرة دون حتى تسميتها، من صوت ولون الغابة إلى عزلة مَن ينظر إليها؛ في تلك اللحظة كان رجلًا إسبانيًّا منفيًّا في أميركا، وأراد أن يجعلنا نرى شيئًا آخر في الغابة:
“كرؤوس رماح نازفة تنتقل رياح الخريف
بين أوراق السنديان.
تُسمع آهات جرحى بين تراب الضباب البنفسجي
وصريخ عربات حربية مفاجئ
صمت عميق، ومن جديد رياح الخريف الوحيدة
في الضباب”.
لا تتحدّث قصيدة ألبيرتي عن الغابة رغم أنها تجعلنا ننظر إلى غابة. قصيدته هي طريقة لاكتشاف الوحدة، والضيق، والهَجر، تلك المشاعر العصيّة على التعبير والتي يمكن التعبير عنها بتحويل ضوضاء أوراق اقتلعتها الريح إلى جَلَبة معركة دائرة بين جيشين بعيدين، وبتحويل لونها البرتقالي إلى صدأ رمح قديم ملوث بدماء عدوّة.
حين نفتح ديوان شعر فإننا ندخل عالمًا رمزيًّا، عالمًا من الخيال حيث لا يهمّ كثيرًا ما يُقال بقدر ما يهمّ ما يعنيه ذلك. الشعر كباقي الفنون يريد أن يُقنعنا بشيء، أن يحملنا إلى مكان ما، أن يُثير فينا إحساسًا معيّنًا. يريد نيرودا أن يوفّق بيننا وبين بَصَلته، ويريد ألبيرتي أن يجعلنا نحزن بغابته، كما أرادت ماري شيلي أن تُفزعنا بوحشها حين كتبت “فرانكنشتاين”. وكلّ هؤلاء يستعينون بآثارٍ بعينها لتحقيق غرضهم. كلهم كانوا مضطرّين لاتّخاذ قرارات مسبقة بعينها قبل الشروع في كتابة أعمالهم؛ قرارات تتعلّق بالموضوع، والبُنية، والإيقاع، والكلمات أو النبرة التي كانوا سيكتبونها بها. هذه القرارات وهذه الآثار وهذه الأدوات هي موضوع هذا الكتاب.
ليست كتابة قصيدة جيّدة، قصيدة تفرض نفسها، أمرًا سهلًا. أخبرنا بول فاليري نفسه عن مدى صعوبة تحويل الواقع شعرًا، والمُخاطرة التي يُقدم عليها من يحاول شرح المعنى الحقيقي للأشياء من خلال الأدب. ليس الأدب والواقع متنافرين بالنسبة له، لكنهما مختلفان؛ لأن “بينهما العلاقات نفسها والاختلافات نفسها التي بين عطر وردة والعملية الكيميائية التي تُطبّق على مادة لإعادة إنتاج ذلك العطر كاملًا”. لكنّه أقرّ أيضًا أن هذا العطر الزائف لن يصبح أبدًا أكثر من ظلّ للأصل، وطريقة لتجنُّب ذهابه طي النسيان. إن هذا كثيرٌ جدا، لكنّه ليس كلّ شيء، ولذلك فقد تكون كتابة بعض الأبيات أمرا محبِطًا. قال فاليري: “لا تنتهي القصيدة، وإنما تُهجَر”.
ربما يكون هذا صحيحًا، وربما لا يكون ذا أهمية كبيرة: ألّا تكون قصيدة ما مثالية فهذا لا يعني ألّا تكون قصيدةً لا غِنى عنها. القصائد الجميلة تكون كذلك، لأنها تجعلنا نفهم الأشياء بشكل وعمق لا تستطيع الأشياء نفسها أن تقدمه لنا. الشعراء المسؤولون هم أولئك الذين لا يجهلون أهمّية هذا الجهد الذي ــ في حالات كثيرة ــ قد لا يكون أكثر من جهد ضائع. لكنْ كما قال تولستوي، فإنَّ من غير المعقول أن ينشر إنسانٌ جادٌّ كتابًا بلا أي غرض آخر غير الإمتاع أو ألّا يخدم أي سبب آخر سوى اللعبة الحرّة للابتكار”. وأنا أرى أنه يجب أن نأخذ بجدّية شديدة ما يراه عن الأدب شخصٌ كتب “الحرب والسلم” و”آنّا كارنينا”.
لكن، على جانب آخر، يحدث مع الأدب مثلما يحدث مع الطبخ، فمجموع المكوّنات لا يُساوي بالضرورة أكلة لذيذة. للشعر حسابه الخاصّ وقواعده الخاصّة، لكنه ليس من قريب أو من بعيد عِلمًا محدًّدا، ليس ثمّة قواعد وقوانين، ولا قوائم وصِفات ولا خرائط تضمن خلْقَ عمل رائع. لا يعني امتلاك كلّ العناصر في مجال الشعر امتلاكًا للأمر برمّته: فالاعتماد على كيفية مزج هذه العناصر وكيفية وضع أحدها بجانب الآخر.
في الواقع، ليست القصيدة العظيمة قالبًا يؤكّد أي شيء يتعلّق بالمستقبل، ليس عليها بالضرورة أن تُحدث أي أثَر حسَن في تابعيها؛ الشاعر الجيد، حتى الشاعر العبقري، لا يستطيع أبدا أن يتأكّد متى سيصل إلى عمل جيد ومتى سيفشل في محاولته، كما أشار ويستن هيو أودن في كتابه “يد الصبّاغ”: “أيًّا كانت حياته في المستقبل كأجير أو مواطن أو رب أسرة، سيظل وجوده الشعري القادم لغزًا بالنسبة إليه. لن يستطيع أبدًا أن يقول: غدًا سأكتب قصيدة، وبفضل تمريني وممارستي أعرف أنها ستكون جيدة. يكون الإنسان شاعرًا أمام الجمهور حين يكتب قصيدة جيدة. أمّا في عينيه هو، فلا يكون الشاعر شاعرًا إلّا حين يراجع للمرة الأخيرة قصيدة جديدة. في اللحظة السابقة لم يكن سوى شاعر بالقوّة، وفي اللحظة التالية هو رجل ترك كتابة الشعر، ربما للأبد”.
لكنّ الكتّاب الذين يصيبون هم أنفسهم دائمًا، الذين يقاتلون من أجل كلّ كلمة وكلّ صمت، الذين يستكشفون بلا تعب حتى يجدوا شيئا خاصًّا، الذين يستطيعون بطريقة أو بأخرى أن يملؤوا مساحة كانت فارغة. إن كتابة قصيدة جيدة بمثابة كشف الحجاب عن لغز.
لدى الشعراء الواعين خوفٌ دائم من الشعر، واحترامٌ له كاحترام خصم يبدو قويًّا ولا يُقهَر. لا يجهلون كم هو معقّد اختيار تشبيهٍ والتكيّف مع إيقاع أو بناء وإخضاع اللغة. ولا ينسون أبدًا تنبيه راينر ماريا ريلكه: “تجرّؤوا على قول ما تدعونه تفّاحة”.
* ترجمة: أحمد محسن غنيم، والنصّ مقتطفٌ من الفصل الأوّل من كتاب بالعنوان نفسه لبرادو، تصدر ترجمته العربية قريباً لدى “مسعى للنشر والتوزيع”.
بطاقة
بنخامين برادو، شاعر وكاتب إسباني، من مواليد مدريد (1961). له أكثر من ثلاثين عملاً بين مجموعات شعرية وروايات ومقالات وأنطولوجيات. صدرت مجموعته الشعرية الأولى عام 1986، بعنوان “حالة بسيطة”. منذ صدور كتابه “سبع طرق لقول تفّاحة” (الغلاف) عام 2000، الذي نترجم هنا مقتطفاً من فصله الأوّل، نشر العديد من الكتب التي يتناول فيها مسألة الشعر والكتابة، مثل “أسماء أنتيغونا” (2001)، و”أكثر من كلمات” (2015).
___________
*المصدر: العربي الجديد.