حكاية الكتابة

تلك هي الحياة.. ذاك هو اللون

*إبراهيم نصر الله

كل ما يلزمني لكي أكتب، هو أن تشرق الشمس..

فمنذ البداية كنتُ كائنًا نهاريًّا. لستُ أدري ما الذي رسَّخ هذه العادة فيّ تماما، ولكن، ربما كانت طبيعة عملي في الصحافة هي ما أملت عليّ ذلك منذُ نهاية السبعينيّات، حتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي، فالعمل الصحفي كان يجتاح أوقات الظهيرة وكثيرا من أوقات المساء، كما أن احتشاد البيت الصغير المكوَّن من غرفتين باثني عشر فردًا، هم العائلة، ساهم أيضا في ذلك، ولذا كان الصباح هو الحلّ، حيث ينتشر أفراد العائلة كل في طريق، ويغدو البيت أكثر هدوءًا.

منذ ذلك الوقت بدأت الكتابة في الصباح، ولم أزل، لم يحدث أن كتبت في الليل إلا مرّات نادرة، ولعلّي لا أتذكَّر سوى قصيدة واحدة؛ ففي تلك الليلة البعيدة، كان لا بدّ لي من أن أحوّل كل تلك الانفعالات الصاخبة التي زلزلتني إلى الكلمات. لم يكن هنالك وقت لتأجيل ذلك، كانت الأحاسيس خانقة بحيث كان لا بدّ من فضاء صغير ألتقط فيه أنفاسي، تلك الليلة كتبتُ قصيدة؛ ومنذ لذك الوقت، أي منذ أكثر من خمسة عشر عاما لم أكتب ليلا. ظلَّت القاعدة هي أن أنهض صبحا، أحلق ذقني وأعدّ قهوتي وأمضي إلى طاولتي لأبدأ الكتابة.

في الثامنة صباحا أكون هناك، وقد يستمرّ الأمر حتى الثالثة ظهرًا في بعض الحالات. لكن في الحالات العادية لا يتجاوز الأمر الثانية عشرة ظهرا، حيث أنهض بعدها وأتناول قليلا من الطعام.

فنجان القهوة هو الشيء الآخر الذي يلزمني مع الصباح، أتراها مصادفة، أن أكون بحاجة لسطوع الضوء وعتمة سواد لون القهوة؟ ربما.

فنجان واحد يرافقني، ويكفيني، وفي حالات كثيرة أكتشف، عند منتصف النهار، أنني لم أشرب أكثر من نصفه، هذا يعني أنني نسيته، وكلما نسيته أدركتُ أنني كتبتُ باندفاعٍ أكبر وبحرارةٍ أشدّ!

أمّا ما أحتاجه أكثر من أيّ شيء آخر، فهو الهدوء المُطلق، فمجرد وجود، حتى شخص صامت في البيت سيربك أمر الكتابة لديّ. أحتاج أن أكون وحدي، ووحدي تماما، وحينما أسمع الباب يُفتَح معلنًا عن قدوم أحد أفراد الأسرة من الخارج، أغلق كلَّ شيء أمامي، كما لو أنني لا أريد أن يضبطني أحد متلبّسا في عملية الكتابة.

وبهذا فالعائلة لا تعاني من وجود كاتب بين أفرادها أبدا.

… وقارئًا يلزَمني ذلك الصمت كلّه أيضا.

***

في البداية كنتُ أكتب على الورق الأبيض بقلم حبر سائل، ولا أستخدم سوى الحبر الأسود. لا أذكر أني استخدمت أي لون آخر في الكتابة. أتراها مصادفة أخرى أن يلتقي الأسود والأبيض؟ هل منهما نستطيع اشتقاق ألوان البشر في هذا الزمان؟ وألوان أحوال هذا الزمان أيضا؟ الا توجد ألوان أخرى يمكن أن تشتقّ منها مصائر البشر وألون ريش أحلامهم. لا أظن! فاللون الأسود هو اجتماع الألوان كلها معا! (احضِر الألوان كلها وضعها في إناء واخلطها جيدًا ستحصل على اللون الأسود!) هذا ما جاء في روايتي (مجرد 2 فقط). هل مهمّة الكتابة إذن قائمة في استعادة الألوان من ضياعها، لإعادتها إلى أصولها الأولى؟ ربما.

تلك هي الحياة، ذاك هو اللون.

لكن، الذي كان يفتنني، قديما، قبل دخول الكمبيوتر لحياتي، كان وجود دفتر محترم، فاقول: هذا الدفتر سأدّخره لرواية قادمة، أو ديوان شعري! وهكذا قد ينتظر الدفتر أعواما قبل أن أُخرجه لأستخدمه في كتابة تستحق أناقته ويستحق أناقتها!

اليوم لدي دفتر أهداه لي كاتب ألماني صديق، دفتر صغير، وعدته أن أُعيده إليه ممتلئا شعرا، هل سأفي بوعدي؟ ربما! إنه دفتر مثير لشهيّة الشّعر!

***

حين ظهر الكمبيوتر تعاملتُ معه بعفَّة مريضة في البداية، كما لو أنه قادم لتدنيس الكلمات البيضاء، التي أكتبها، بعتمة المجهول التي تقبع في داخله كثقب أسود لا أستطيع سبر أغواره.

ها هو السّواد يعود ثانية فيه مُجسّدًا أكثر ومُحيِّرًا أكثر وغامضًا أكثر!

لكني قرّرتُ الدخول إلى عالمه بقرار عقلي بحت؛ أقنعت نفسي بأني مريض وأن عليّ دخول المستشفى لإجراء عملية عاجلة، وإلّا فالعواقب وخيمة!

في عام 1997، قرّرت اتّخاذ الخطوة الكبرى، كان الأمر مُربكا في البداية، لكن الشيء الذي كنتُ واثقا منه أن الكمبيوتر لن يختلف عن الأوراق.

تذكّرتُ مسيرة أجدادنا وقلت: لا بدّ أن الأمر نفسه قد حصل حين وجد الكتّاب والمدوّنون، قديما، أنفسهم، ذات يوم، مجبرين على هجر الألواح الطينية والمسامير، إلى جلود الحيوانات، للكتابة عليها بالريشة، ثم وجدوا أمامهم الثورة الكبرى فيما بعد، التي مثَّلها اختراع الورق؛ لا بدّ أنهم نظروا برعب إلى هذه الصفحات الرقيقة الهشَّة التي لن تستطيع أن تحمي أفكارهم بهشاشتها وهم يتأمّلون قدرتها الفائقة على الاندثار!

كانت الورقة بالنسبة لي أشبه ما تكون باللوح الطيني، فهي ملموسة وحقيقية وصلبة إلى حدٍّ غير معقول، مقابل هشاشة ذلك الشيء اللاشيء، الذي سأكتب فيه وعليه كلماتي، الشيء الذي ما إن أُغلقه حتى تبدو الأشياء التي كتبتُها غير موجودة أبدا ولا شيء يدلّ عليها وهي ملقاة في غياهب ذلك الغموض الجبّار في ذلك الجهاز.

لكن ذلك الحسّ لم يدّم طويلا، قمتُ بطباعة ديوان كتبته على الورق، وحين خرج من الطابعة من الجهة الأخرى كحقيقة واقعة تأكَّد لي أن تلك العتمة الغامضة قابلة أيضًا لاحتضان الضوء!

كل شيء أكتبه منذ ذلك التاريخ على جهاز الكمبيوتر، الشِّعر والرواية والمقال وهذه الشهادة.

وأظن أم أكثر دواويني الشعرية حميمية، حتى تلك اللحظة: بسم الأم والابن، كتبتهُ على هذا الجهاز، الذي اختصر الكثير من الجهد الذي كنت أبذله كروائي، لأنه يعفيني من النسخ مرَّة تلو أخرى، ويمنحني حرّيّة استثنائيَّة للتحكّم في النص. وأظن أن حاجة الباحثين والروائيين إليه ملحَّة أكثر من الشعراء بكثير!

***

ونعود للكتابة، حين أبدأ بكتابة رواية أعمل عليها كل يوم، إلى أن تنتهي، لا أسافر ولا أرتبط بأي موعد في الوقت المخصّص للكتابة، إلا إذا كنت مضطرًا لذلك الموعد فعلا. وحين أنتهي من الرواية أبتعد تماما عن ذلك الملقّب الذي يضمّ الرواية؛ أهجره عدّة أشهر قبل أن أعود له ثانية. كما صدف أنَّ كل الأعمال الشعريَّة التي كتبتها منذ ذلك التاريخ هي أعمال مركَّبة، وليست قصائد متفرّقة؛ لكل عمل شعري جوّه الخاص، وهذا أدَّى إلى أن أعمل عليه كما لو أنني أعمل على الرواية. أي يوميًّا إلى أن ينتهي.

منذُ أن تفرّغت للكتابة، عام 2006، تغيّرت بعض العادات فأصبحت أُكمل أو أُراجع ما أكتبه صبحًا، في فترة ما بعد الظهر، في مكتبي الخاصّ البعيد عن البيت. وقد اكتشفت أن امتلاك المرء للصباح والمساء، معا، فرصة استثنائيَّة لكي يُنجز بصورةٍ أفضل، وخارج ارتباطات العمل أو سواه.

ها نحن نعود لبياض الصباح وسواد المساء من جديد.

لم أكن بحاجة لكل هذا الوقت، أيّ للوقت كلّه من قبل، مثلما كنت بحاجة إليه وأنا أكتبُ روايتي (زمن الخيول البيضاء)، وهكذا ففي ظنّي أنّ عادات جديدة تخلَّقت مع مرور الزمن، وإذا بي أستطيع أن أكتب في المساء أيضا.

لكن الشيء الذي لا أفعله هو أنّني لا أشرب القهوة مساءً.

تسألني: لماذا؟

لأني لا أخلط الأسود بالأسود.

_______
*النصّ من كتاب إبراهيم نصر الله (كتاب الكتابة؛ تلك هي الحياة.. ذاك هو اللون)/ الدار العربيَّة للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى (يناير) 2018.

**إبراهيم نصر الله: كاتب وشاعر وأديب من مواليد عمّان، الأردن،عام 1954م من أبوين فلسطينيين، هُجِّرا من أرضهما في قرية البريج (فلسطين).

نشر حتى الآن 15 ديواناً شعرياً و 22 روايةً من ضمنها مشروعه الروائي (الملهاة الفلسطينية) المكون من 12 رواية تغطي أكثر من 250 عاماً من تاريخ فلسطين الحديث. ترجمت له خمس روايات وديوان شعر إلى الإنجليزية، وأربعة كتب إلى الإيطالية. كما ترجمت له رواية إلى الدنماركية وأخرى للتركية والفارسية. ونصرالله إلى ذلك، رسّام ومصوّر، وقد أقام أربعة معارض فرديَّة في التصوير.

نال نصرالله 9 جوائز، أهمها “الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” عام 2018 عن روايته “حرب الكلب الثانية”، وجائزة سلطان العويس المرموقة للشعر العربي عام 1997؛ واختيرت روايته “براري الحُمّى” من قبل صحيفة الغارديان البريطانية كواحدة من أهم عشر روايات كتبها عرب أو أجانب عن العالم العربي. عام 2012 نال جائزة القدس للثقافة والإبداع التي تمنح لأول مرَّة تقديرا لأعماله الأدبية، كما نشرت 10 كتب نقدية عن تجربته الأدبيَّة، وتناولت أعماله عشرات رسائل الدكتوراه والماجستير في العالم.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

زر الذهاب إلى الأعلى