*قاسم توفيق
يَرْبِضُ في داخل كلِّ واحدٍ منّا كاتبٌ متأهِّبٌ للانطلاق، وكلُّنا نكبحُ هذا الانطلاق لأنَّنا نخاف، فنكتفي بالكلام، فالكلام ليس موثقًا ولا مثبتًا. وكلُّنا نخافُ من توثيق مشاعرنا وعواطفنا وإيماناتنا وأفكارنا الصغيرة وأسرارنا لأنَّنا نخافُ الآخر. نحتفظُ بكمٍّ هائلٍ من الأفكار التي بها نعيشُ ونحلُمُ ونتخيَّلُ، لكنَّنا نخافُ من توثيق حقيقة وجودها. الكتابة هي جرأة المُواجهة. والكتابةُ المكشوفةُ والثائرةُ والصارخةُ بطولةٌ ومغامرة، وأنا لستُ بطلًا ولكنّني مغامرٌ، لذلك أكتب.
لا أدري كيف يكونُ الكاتبُ كاتبًا، أو لماذا يكتب؟ لكنّني بتجربتي المتواضعة الخاصّة أعرفُ أنّ الكتابةَ هي حالةُ بوحٍ بصوتٍ عالٍ، هي حالةُ صخبٍ يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ عواء الذئاب.
قد تكونُ تجربتي الروائيّة استنساخًا لتجربتي الحياتيّة، فإنْ كان مطلوبٌ منيّ أنْ أحكِيَ عن هذه التجربة، فلا بدَّ أنْ أخلَعَ برقعَ الحياء، وأنْ ألبسَ رداءً يكشف عُريي، وأنْ أتهيَّأَ لعشرات الرّصاصات التي سوف تنهالُ عليّ من القريبين أكثر من البعيدين.
سيرتي الكتابيّة لا تعدو غير امتدادٍ لسيرةِ العالَمِ الذي تكوّنْتُ في داخِلِه؛ رحْمُ أمّي، بيتُنا، الحارةُ، عمّان، وما تبقّى من الكرةِ الأرضيّة.
إنَّ المرار والخطر لا يتأتَّيان ممّا تبقّى في الوعي، وما يَتَواثَبُ في الذاكرة، فهذه مسائل يسهُلُ تدجينُها وكبحُها، لقد كنسْتُ الذكرياتِ التي تُشقيني لأنّني اكتفيتُ شقاءً، لم أعُد قادرًا على مُعايشةِ وجعِ وبؤسِ الماضي بالتذكُّرِ بمثلِ ما عايشتُهُ بالحقيقة. العقدةُ ليسَت في ما أتذكَّر؛ بل في ما نسيتُهُ لكنَّهُ لم يَنْسَني، بل تقوقَعَ في المخبوءِ فيّ. أنا إنسانٌ يملك ذاكرةً سيئةً للغاية، فأنا لا أنسى شيئًا.
الكتابةُ حالةٌ تستفزُّ الكائنَ كلَّهُ، تحفِّزُ كلَّ ما فيهِ؛ حتى تلك المنسيّةُ والتي لا تُحسُّ، تجيئُهُ في صحوِهِ مثل الأحلام، ليخطَّها على الورق، يشطُبُ، يعدِّلُ، يضعُ هامشًا، ثم يغلقُ عليها، وعندما يعودُ لقراءتِها يُفاجَأُ بما يراه، ويتلبَّسُهُ شكٌّ مجنونٌ بِمَن يكونُ مَن كَتَبَ كلَّ هذا؟ ولولا أنَّني لا أؤمنُ بشيطانةِ الشّاعِرِ التي تتلبَّسُهُ لقلتُ إنَّ لي جنيَّةً هي التي تُملي عليّ ما أكتُبُهُ. ولأنَّني لستُ كذلك، ولأنَّني أثقُ بماديّة اللاشعورِ وصيرورتِه ووجودِه فقد عرفتُ بأنَّ الكتابةَ هي نبشٌ في مخازِنِ لا شعورِنا.
أشكُّ بأنَّ هناكَ عاشقًا لم يكتُبْ أو يؤلِّفْ شيئًا في العشق، وفي ما يتصارعُ فيهِ من مشاعرَ تجاهَ معشوقِه. الكتابةُ أعلى صوتًا من النّواح في الحزن، وأرقُّ من فراشةٍ في الفرح. كلُّنا نكتب، بعضنا يستعمل الورق وآخرون يكتبون على جدران صدورهم. الكتابةُ هي جرأةُ المُواجَهَة.
من عمر الصّبا وأنا كلّما رأيتُ أمي تبكي من العجزِ وقلّةِ الحيلةِ في سدِّ أفواهِنا الجائعة، أو عند سماعها أغنية تحكي عن الفراق، كنتُ أعوّي فوق الورق، وكنتُ أصرخ على الورق كلما أفرغ شقيقي الأكبر فينا نحن إخوته الصغار قهره وغضبه المنبعث من رغبته في ارتداء بنطالٍ لا تكونُ رُقَعُهُ مكشوفةً وفاضحة.
كنتُ أكتبُ وحسْب. تعلّمتُ القراءةَ والكتابةَ في سنٍّ مبكّرةٍ جدًا في ذلك الزمان، ففي طفولتِنا كان يجب أن نلتحق بالمدرسة عندما نبلغ السابعة من العمر وليسَ قبلَ ذلك، وهذا أمرٌ من أشياءِ طفولتِنا القبيحة. في ذاك الزَّمان كان عندنا جارةٌ مسيحيّةٌ لا زلتُ أذكُرُ تفاصيلَها الطيِّبة، هذه الجارةُ طلَبَت من أهلِنا، نحنُ الأولادُ المشاكسون؛ مَن تجاوزوا الخامسةَ أو السادسةَ من العمر، أنْ تتكفَّلَ بتعليمِنا القراءةَ والكتابةَ في بيتِها، بالطَّبع كانت هذه أجمل هديّة يمكن أن يقدِّمَها الجارُ لجارِه، وهي لَمُّنا من الشوارع، وإخمادُ شَغَبِنا وضجيجِنا. تعلَّمنا القراءةَ والكتابةَ قبل المدرسة، وتعرَّفنا على كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة من فمِ هذه الجارةِ التي كانت تشدُّنا لصوتِها وحركاتِها وتقليدِها للحيواناتِ والبشر.
لقد أحبَبْنا آنذاكَ القراءة، وأحببتُ أنا الكتابةَ والقراءة. بعد المرحلة الابتدائيّة فقط كنتُ قد قرأتُ الأعمالَ العالميّة لتشارلز ديكنز، وفكتور هيجو، وهمنغواي وكامو، وعبدالحليم عبدالله، ونجيب محفوظ وكتبتُ أوَّلَ قصّةٍ لي.
كيف ولماذا تُولد القصةُ الأولى عند المؤلف؟
لا أقدرُ على وضعِ توصيفٍ عامّ، بل يمكنُ أنْ أسردَ الوصفَ الخاصَّ بي. أوَّلُ قصّةٍ كتبتُها ولا زلتُ أحتفظُ بها إلى اليوم كانت إعلانَ رفضٍ لسلوكيّاتِ أخي الكبير تجاهَنا، وهو الوحيدُ الذي كان بمقدوره أنْ يكونَ المعيلَ لنا، كتبتُ عنه قصّةً كانت غريبةً عن حياتنا، لا تشبهُ الحياةَ التي نعيش، أسماءُ شخوصِها أجنبيّة، وأماكنُها لوحاتٌ من عوالم السينما التي كنتُ مولعًا بها وليست حارات “عمّان” المُترَبَة. وهُنا أوَدُّ أنْ أُؤكِّدَ رفضِيَ القاطعَ لفكرةِ أنَّ الشَّقاءَ الإنسانيَّ يخلِقُ الإبداعَ، فلكلِّ مبدعٍ أسبابُهُ.
لقد لجَأتُ بطفولةٍ غير واعيةٍ لاستخدامِ الرَّمزِ في القصةِ في محاولةٍ للنَّجاةِ من علقةٍ قاسيةٍ يمكن أن أتلقّاها من هذا الأخ لو حَدَثَ ووقَعَت قصَّتي بين يديه. فصار الرَّمزُ عندي محفِّزًا للاستمرار في الكتابة، لقد دفَعَني الخوفُ إلى اللُّجوءِ نحو الرمزيّةِ للإفلاتِ من عقابِ أخي، وهو ما دفعني بعد سنواتٍ للإفلاتِ من مقصِّ الرقيبِ الحكوميّ، أو من مقصِّ المحرِّرِ الثقافيّ لصحيفةٍ أو مجلةٍ أسعى لنشرِ قصّةٍ فيها. حتى تَحَوَّلَ هذا الخوفُ إلى مرضٍ صرتُ أحاولُ الشفاءَ منه بأنْ صنعتُ مثلَ غيري من الكُتّابِ رقيبًا أضعُهُ فوق رأسي وهو يحملُ مقصًّا يقصُّ فيه ما لا يجوزُ نَشْرُه، بِيَدي أنا وقبلَ أنْ تخرجَ أفكاري إلى الورق.
الفرصةُ الأجملُ في الحياة هي التي تصيبُكَ في زمنٍ وشروطٍ ليست جميلة. صارت الكتابةُ لي حالةَ حبٍّ، وهكذا تعلَّمتُ الكتابة.
ما الذي دَفَعَني لنشرِ ما أكتُبُه؟
قد يكونُ مغامرةً في شكلٍ ما، لأنَّني لم أفكِّرْ بتسلُّقِ جبالِ الألب، ولا بقَطْعِ بحرِ المانش، فلا أنا رشيقٌ لأصعَدَ الجبال، ولا أعرفُ بالمطلقِ فنَّ العَوْم، كلُّ ما فيّ أنَّني لا أخافُ مِن إسماعِ صوتي. التناقضُ الذي جعلَ من مغامرتي أكثرَ إثارةً يكْمُنُ في أنَّني في كلِّ مرَّةٍ أكتُبُ فيها، أزدادُ يقينًا بأنَّني أكتُبُ لنفسي، وكأنَّ نفسي هذه ليست شيئًا متمثِّلًا بشخصِيَ الفرد أو بثالوثِ أناي، بل هي كلُّ النُّفوسِ المحيطةِ بي، فأنا أكتبُ لنفسي الجمعيّة؛ كلِّ البشر. إنَّ المؤلِّفَ لا يكتُبُ لأحدٍ؛ بل يكتُبُ لنفسِه. فلماذا إذًا ينشُرُ على الملأ ما يكتُبُهُ لنفسِه؟ أعتقدُ أنَّ الإجابةَ عن هذا السُّؤالِ تكمُنُ في أنَّهُ كائنٌ مُغامرٌ. أليسَت الكتابةُ هي جرأةُ المُواجَهَة؟؟؟ وعندما تفرَّغتُ لمشروعِيَ الأدبيّ تكسَّرَتْ فيَّ كلُّ مظاهِرِ الخوف، وأُتيحت لي الفرصةُ العظيمةُ بأنْ أصبحَ حُرًّا.
يعيبُ عليّ بعضُهُم بأنّي كثيرُ الإنتاج، وأنا أُعيبُ عليهم قلّة الإنتاج، كيف لِمَن دَوْرُهُ في الحياة الكتابة، أنْ يطيلَ من صمتِهِ أمام هذا الوجود المكتظّ والمليء بالصَّخَب؟
طوال سنوات طفولتي المستمرّة حتى اليوم، وحتى هذه الساعة، تعلمتُ شيئًا واحدًا قد يكون هو الحقيقة، وهي أنَّنا نحن البشر ومِن أوَّلِ لحظاتِ وجودِنا على هذا الكوكب الجميل الصغير نظلُّ نبحثُ عن إجاباتٍ لأسئلةٍ تظلُّ تتعاقبُ علينا دون توقُّف مثل رشقاتِ الرَّصاص، السخريةُ تكمنُ في أنَّ كلَّ واحدٍ مِنّا هو مَن يضع أسئلَتَهُ لنفسِه، وهو الذي يجهد في الإجابةِ عنها، وإنْ فشلَ في الإجابة عنها، سلَّمَ أمرَها للمجهول. وهذا ما لم أفعَلْه.
الكتابةُ حالةٌ إنسانيّةٌ عامّة، وإنْ تنوَّعَت واختَلَفَت درجاتُها وأنواعُها، وهي بالضَّرورة تكرِّسُ فكرةَ توحيدَ الجنسَ البشريّ. فسحريّةُ التفكيرِ والكتابةِ ليسَتْ سوى واحدةٍ من وظائِفِ النّاسِ البيولوجيّة، وإنّ البشَرَ كلَّهم يملكون هذه المَلَكَة، هي واحدةٌ مِن عواملَ توحِّدُهُم، ففي داخل كلِّ واحدٍ منّا كاتبٌ، لكنّ الكثيرين يكتبون في صدورهم دون أنْ يملكوا الجرأةَ على الإمساكِ بالقلمِ والخطِّ به على الورق، ليس لأنّهم ليسوا كُتّابًا، بل لأنَّهُم لا يملكونَ جرأةَ المُواجهة.
لقد ازددتُ إيمانًا بقناعتي هذه من خلال معرفتي بدَوْرِ القارئِ في عمليّةِ الكتابة، فعندما يسبرُ قارئٌ عوالمَ روايةٍ ما، ويبدأُ بالتعرُّفِ على أحداثِها وشخوصِها لا يعودُ يرى ذاتَ الأحداثِ والشخصيّاتِ التي كَتَبَها الرّاوي، بل يقومُ بتخيُّلِ وصناعةِ ورسمِ شخصيّاتٍ وأحداثٍ بِوَعْيِه، وقدرتِه على التخيُّل. فهو يُعيدُ كتابةَ الروايةِ دون أنْ يُمسكَ بالقلم.
في الكتابةِ أدافعُ عن وجودي، وعن وجودِ الناس، لستُ شجاعًا، ولكنَّني مقاتلٌ صعبٌ عندما أُدفَعُ لأيّ معركة، الكتابةُ هي متراسِيَ الأخير، قلعتي وحصني، من ورائِها أدافعُ عن نفسي، وعن الناسِ الذين هُم مثلي، لم أنتهِكْ في الكتابةِ حريّةَ الآخر، ولم أعتَدِ على حقِّ أحد، بل قاومتُ الذين يعتدون عليّ لأحمي ما هو حقٌّ لي، وحقٌ لِمَن هُم مِثلي.
اجتزتُ حاجزَ الخوفِ، واجهتُ التابوهاتِ التي تحكُمُ وتتحكَّمَ في حياتِنا دون أنْ أتبنّى موقفًا ليس لي؛ تكلَّمتُ بالمحرَّمِ، والممنوعِ، كتبتُ كثيرًا عن أجمَلَ ما في أعمارِنا؛ المرأةُ بِمِثْلِ ما يليقُ بقدسيّةِ وجودِها، قلتُ إنَّها لا تكونُ مُستَلَبَةً إنْ عَشِقَتْ، لا يوجدُ عاشقةٌ مستلبةٌ بالمفهومِ الاستبداديِّ لهذه الكلمة، بل يوجدُ عاشقةٌ مستلبةٌ بسحرِ العشقِ، وهذا استلابٌ أعظمُ مِن كلِّ حريّاتِ الدُّنيا.
كتبتُ عن الفسادِ الذي صارَ لازمةً لأصغَرَ تفاصيلِ حياتِنا، والذي صارَت عَدْواهُ تتفشّى بالنَّظر، حكيتُ كثيرًا بالجنسِ الذي يُحرَّمُ الحديثُ عنه، في الوقت الذي يُتيحُهُ انتشارُ النتّ والفيديو كليب، بيُسْرٍ وسهولةٍ وبالمجّان. قلتُ ما يجب أنْ يُقالَ عن التِّجارةِ في الأديان، وتكلَّمتُ في “نزف الطائر الصغير” عن التّيهِ الذي يرتعُ فيه جيلُ الشباب، روايةٌ كانت هي الأصعبُ؛ فكيف لي بهذا العمرِ والتجربةِ أنْ أحاكِيَ تجربةَ شابٍّ في منتصفِ العشرينات من العمر؟ ومع كلِّ هذا أقولُ إنَّني حتى اللحظة لَمّا أبدأُ بَعْد، لقد تفوَّهتُ ببعض العباراتِ والأفكار، لكنَّني لم أشُدَّ قدمي على الأرضِ التي أريدُ مثلما أشتهي، ولمْ أصرُخْ بأعلى الصَّوت، في الرّأسِ كلامٌ كثير، وحكايا كثيرةٌ ما تزالُ في جيبي، وإنَّني لأرى الكلماتَ تحومُ فوقَ رأسي مثل طيورٍ صغيرةٍ جميلة، تدنو مِنّي وكأنَّ جسدي حديقةٌ وأشجار.
هي مسألةُ مُصارعةِ العُمر، إنْ استطعتُ أنْ أمكُثَ أكثَرَ فوقَ هذِهِ الأرضِ فسوفَ أقولُ الكثير، وحتى أغادِرَها سأظلُّ أقولُ، هذا الزَّمانُ العربيُّ الغريبُ يُنطِقُ الأخرسَ، فكيف بِمَن له لسانٌ طويلٌ مثلي؟
المهمُّ في آخرِ الأمرِ أنَّ الكتابةَ ليسَت مُعاناةً أو شقاء، بل هي على العكس، مُتعةٌ وممارسةٌ ساحرةٌ للخيال.
______
*قاسم توفيق: كاتب أردني من أصول فلسطينيَّة، دأ الكتابة في عام 1974 بنشر مجموعة من القصص القصيرة في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، وأصدر أول مجموعة قصصية أثناء دراسته في الجامعة الأردنية بعنوان “آن لنا أن نفرح” سنة 1977. برز اسمه في عالم الأدب محليًا وعربيًا مع إصدار روايته الأولى “ماري روز تعبر مدينة الشمس” والتي لقيت أصداء واسعة لما احتوته من إبداع على مستوى الموضوع والنص. أصدر عددا من الروايات منها: “ماري روز تعبر مدينة الشمس”، “أرض أكثر جمالاً”، “عمان ورد أخير”، “ورقة التوت”، “الشندغة”، “حكاية اسمها الحب”، “البوكس”، “رائحة اللوز المر”، “صخب”، “حانة فوق التراب”.