حكاية الكتابة

من ألف باء اللغة إلى بحر الكلام

*محمود شقير

ذات مرَّة قلت: الكتابة هي الرئة التي أتنفَّس منها.

وقلت: عبر الكتابة، أصوغ حياتي على النحو الذي أريد.

     أصبحت الكتابة بعد تفرُّغي لها عملي اليومي وانشغالي الدائم، وهي مبرِّر حياتي وجوهر وجودي. ولا أظن أنني قادر على الفكاك منها إلا بالموت، بل هي الردّ غير المباشر على الموت. أتحدَّى الموت بالكتابة، وأسعى بكل مثابرة إلى أن يبقى اسمي موجودًا بعد الموت. وبغض النظر عن مقارعة الموت، فلماذا أنفكّ من الكتابة وهي من أشرف الظواهر في حياة البشر؟!    

    وسوف أواصل كتابة الروايات والقصص، علاوة على كتابة مقالات ونصوص عن القدس، أتطرَّق فيها إلى ذاكرة المدينة خلال نصف القرن الماضي. سأتحدَّث عن الأمكنة والمعمار وعن البشر وعن الحياة اليوميَّة في المدينة، عن الثقافة وعن العادات والتقاليد، عن ترييف المدينة وإعادتها إلى الوراء. وسأشعر بالأسى وأنا أتذكَّر أنّ المحتلِّين الإسرائيليين يخصُّون القدس باهتمام منظَّم مدروس، تفصح عنه الاحتفالات الثقافيَّة والفنيَّة الحاشدة التي يعقدونها في المدينة، وكذلك الكتب الثقافيَّة والروايات والأفلام المكرّسة للمدينة! فأين نحن من كل ذلك؟ أين نحن من القدس التي يجري تهويدها الآن على قدمٍ وساق؟

***

الكتابة هي مصدر قوَّتي  الوحيدة تقريبًا، ولا خيل عندي أهديها ولا مال، وليس لدي في حقيقة الأمر سوى الكتابة. ولولا الكتابة التي تهب معنى أكيدًا لحياتي لما استطعت مواصلة العيش.

     أستطيعُ عبر الكتابة أن أخوض صراعي المشروع ضدّ  التخلُّف والجهل وضدّ التسلُّط والاستغلال، أستطيع أن أعرِّي كل خلل  وأيَّة مظاهر سلبيَّة من حولي، كما أستطيع أن أعزِّز النفور من كل ما  يتناقض مع الحسِّ الإنساني السليم. وأستطيع أن أجد عبر الكتابة فرصة للتعبير عن كل ما هو نبيل ومتألِّق من قيم وسلوكيات إنسانيَّة ونضاليَّة رفيعة. أسطيع عبر الكتابة أن أضيء شمعة تفضح قوى الظلام التي تتكاثر في مجتمعاتنا وفي هذا العالم سواء بسواء. ويبدو لي أن هذا شرف للكتابة لا تدَّعي ما هو أكثر منه، فالكتابة لا تستطيع مثلما يتوهَّم بعض المتفائلين من الكتَّاب والمثقَّفين، أن تغيِّر أنظمة حكم جائرة أو أن تهزم جيشاً غازياً، لكنها تستطيع أن تعزّز مع الزمن، مشاعر الرفض للظلم والقمع وللغزو والعدوان.

***

تلعب البيئة دورًا في أعمالي. وأعتقد أن معايشتي للقرية الفلسطينيَّة فترات طويلة أملت علي الاهتمام ببيئة القريَّة وبالريف الفلسطيني عمومًا. فقد عملت بضع سنوات مدرّسًا في الريف، وأنا في الأساس أنتمي لقرية واقعة على تخوم القدس، ولدت في هذه القرية وما زلت أعيش فيها بعد أن تحوَّلت إلى حيٍّ من أحياء القدس.  ثم إنَّ معايشتي للمدينة الفلسطينيَّة، ولمدن عربيَّة مثل دمشق التي كنت منتسبًا إلى جامعتها، وبيروت وعمّان وهما المدينتان اللتان عشت فيهما منفيًّا من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تفسِّر اهتمامي بكتابة قصص ونصوص تستوحي المدينة. كما أن جذوري البدويَّة ومتابعتي لحياة أهلي وأقاربي الذين عاشوا بيئة البداوة في فترة سابقة من حياتهم، جعلتني أهتمّ بالكتابة عن هذه الحياة التي ظلَّت آثارها بارزة في سلوكهم اليومي إلى حدٍّ ما، وفي ذكرياتهم التي لطالما استمعت إليها من أمّي وأبي ومن أقاربي، بحيث أصبحت مع تمثُّلي لهذه الذكريات كما لو أنني عشتها بحذافيرها ومن دون انتقاص.

***

كانت الحكاية الشعبيَّة تملأ عليّ طفولتي. لم يكن في بيتنا مذياع حتى أواسط الخمسينيات، أما المذياع الذي قدّمته سلطات الانتداب البريطاني لجدّي باعتباره شيخ عشيرتنا، فقد أصابه العطب بعد النكبة بأشهر، فلم يبادر جدّي إلى إصلاحه، ربما لزهده في الأخبار التي لم تعد تسرّ البال، فلم يتبقَ للأسرة من سبب لتزجية الأمسيات التي تسبق الإخلاد للنوم، سوى الحكايات التي كانت تبرع فيها جدَّتي لأمي، وكانت أمي بدورها تحفظ مجموعة من الحكايات تسردها علينا بالتتابع عبر كل فصول السنة، ثم تعود لسردها علينا من جديد إذا لم تتوفَّر حكاية جديدة.

        وكان أحد أخوالي بارعاً في سرد الحكايات. كان يذهب إلى القرى البعيدة لتحصيل الرزق، ثم يعود ومعه حكايات لم نسمعها من قبل. كنا نصغي إليه بانتباه وهو يحدِّثنا عن أبطال الحكاية، الأخيار منهم والأشرار، فتتلوّن ليالينا بألوان لها ظلال وامتدادات.

        ولم يكن خالي يتوقَّف عند هذا الحدّ، فقد كان يروي لأخته التي هي أمّي، بالهمس حيناً وبالجهر حيناً آخر، عمّا كان يصادفه من مغامرات مع النسوة في القرى البعيدة، فأشعر بالحيرة تجاه ما يرويه هذا الخال دون تحفُّظ أو إكتراث، لأجد من بعد أن موضوع المرأة في كلّ حالاتها وفي كلّ أطوارها، يشكّل محوراً رئيساً من المحاور التي تنهض عليها كتاباتي القصصيَّة.

***

        وكانت “التعليلة” التي تشهدها كل مساء مضافة جدي – بعد خراب المذياع والتوقّف عن سماع الأخبار – سبباً من أسباب تعلّم السرد القصصي والاهتمام به واختزانه – دون تخطيط مسبق – لأزمنة سوف تأتي. كان جدِّي في السنوات التي أعقبت النكبة قليل الكلام، لا يخرج عن صمته إلا لكي يتحدَّث باختصار عن نعيم الجنَّة الموعودة وعن عذاب النار، أو لكي ينهى أحد المتحدّثين عن استغابة الناس لما في ذلك من إثم ومن مخالفة لسنن الدين الحنيف.

غير أن أحد أعمامي لم يكن يجد متعته إلا في سرد الحكايات الساخرة، وفي التعليق الفكه على سلوكيات الناس وأخبار معاشهم وقعودهم وقيامهم، فلا يطيب لجدّي الاستماع لمثل هذا الكلام. لكنني كنت أعجب من قدرة هذا العمّ على تنميق أسلوبه، وعلى اختيار الكلمات التي تثير ضحك السامعين، وتدخل المتعة إلى نفوسهم. على العكس منه تمامًا، كان زوجُ عمتي المغرمُ بسرد الحكايات المطوّلة المملَّة. كان يحاول أن يسترعي انتباهنا بوسائل مصطنعة، كأن يضحك قبل أن يكمل جزءًا من حكايته، لكنه لم يكن يفلح في استقطاب السامعين، ولم أعد قادرًا على الإصغاء إليه لكثرة ولعه في الاستطراد، ولرغبته الشديدة في التطويل.

***

        كانت مضافة جدي تشكِّل لي تحدّياً من نوعٍ خاصّ، فلم يكن الكلام فيها متاحاً لكل راغب فيه. فثمَّة أصول للكلام تنبغي مراعاتها، فإذا تكلَّم ذوو السلطة والجاه من أبناء العشيرة، وجب الإصغاء إليهم، حتى لو كان كلامهم قليل الأهميَّة، بالغ السوء. وإذا تجاسر من لا سلطة لهم ولا جاه من أبناء العشيرة، على الكلام، كان حظّهم من الإصغاء إليهم محدودًا، ولا يندر أن تشوبه السخريات والتدخّلات وعمليّات المقاطعة. أمّا الأطفال، ممن هم في مثل سني آنذاك، فلم يكن مسموحًا لهم بالجلوس في المضافة إذا كانت عامرة بالضيوف، أما إذا كانت التعليلة في المضافة مقتصرة على أبناء العشيرة، فقد كان مسموحاً لهم بالجلوس، ولكن بصمتٍ وإذعان.

        كان عليّ، وأنا جالس في المضافة، أن أصغي فقط، وإذا حظيت ذات مرَّة بتوجيه سؤال عابر إليّ من أحد الكبار، فمن واجبي أن أجيبه دون توسّع في الكلام، فإذا تباطأت في الإجابة، اندلعت فوق رأسي السخريات التي غالباً ما كانت توقعني في الارتباك، ثم تُسلمني إلى حالة من الصمت الاضطراري المؤلم المُهين.

        كنت مضطراً إلى الصمت داخل جدران المضافة حتى سنوات الشباب، فلمَّا حاولت كسر هذا الصمت، بدت محاولاتي خجولة أكثر مما ينبغي، ربما بسبب تهيّبي من الأجواء الصارمة التي عشتها إبان سنوات الطفولة في تلك المضافة المتعبة. وبدا لي أن من يصغون إلي، إنما يفعلون ذلك على مضض، فلم أعد راضيًا عن محاولاتي العديدة لأخذ زمام المبادرة، ولفرض ما أبغيه من كلام على السامعين، فوجدتُ أنَّ أفضل شيء يحقِّق لي شيئًا من الرضى عن النفس، الانسحاب إلى مضافتي الخاصَّة، أبنيها على الورق، وأدير عبر أرجائها الفسيحة، ما أشاء من كلام ومن حوارات، أنا سيّدها وخالقها، وأنا المسؤول عنها والمتحكِّم فيها.

        كانت الكتابة هي ردِّي الممكن على سلطة الصمت، وصرت ألجأ إليها كلما وجدت في نفسي حاجة للبوح أو رغبة في تحدِّي المضافة – مضافة جدي – التي توسَّعت مع الزمن، واتَّخذت شكل سلطة مجتمعيَّة، ما زالت تفرض عليّ، وعلى الغالبيَّة العظمى من أبناء مجتمعي، الكثير من شروطها المجحفة، وما زلت أحاول – عبر الكتابة – أن أفرض عليها شروطي المختلفة.
______

* محمود شقير: أديب فلسطيني من مواليد جبل المكبر في القدس، عام 1941. حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع من جامعة دمشق عام 1965.، صدر له حوالي 67 كتابا في مختلف الأصناف الأدبيّة، فقد كتب: القصّة القصيرة للكبار والأطفال، القصّة القصيرة جدّا، الرّواية لليافعين وللكبار، أدب الرّحلات، المسرحيّة، السّيرة، النّقد، المراثي، المسلسلات التّلفزيونيّة، المقالة الأدبيّة والسّياسيّة.


** النصّ من كتاب “أنا والكتابة.. من ألف باء اللغة إلى بحر الكلمات” للكاتب والروائي محمود شقير/ دار لوسيل للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى 2018.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى