حكاية الكتابة

الكتابة.. تلك التي أنقذتني

*غفران طحان

عندما كنت صغيرة كنت ألزم جدّتي التي كانت تجعل من سهراتنا حفلةً من خيال، كانت حكاياتها لا تنتهي، ومع أنّ بعض الحكايات كانت تتكرّر، إلا أنّ جدّتي كانت قادرة على جعل الشخصيات تتصرّف بشكلٍ مُغاير عمّا كانت عليه في حكاية الليلة السابقة، كنت أفتح عقلي وقلبي لكلّ هذه الحكايات، وقبل النوم أصوغ للشخصيّات عوالم جديدة، أذكر أنني جعلت لـ”أحمد الكسلان” أجنحة تجعله يؤدّي كلّ ما يريده من دون أن يبذل أيّ جهد.

رحت أستخدم هذه الموهبة في حكايات أقصُّها على الأصدقاء، صرت أحكي بيقين لا لَبْسَ فيه عن قزمٍ يشاركني غرفتي، أحكي يومياته وتفاصيل حياته، لا أعرف لمَ جعلت من شريكي قزماً ولم أتحدّث عن قطّة أو عن أيّ حيوان يمكن تربيته. بنت جيراننا نقضت قصصي كلّها حين أخبرت زميلاتي في المدرسة أنني أسكن في بيت صغير، وأنني أنام مع إخوتي الخمسة في غرفة واحدة، وأننا لا نملك حتى تلفازاً، وأنني أكذب في كلّ ما أقوله!

صديقة واحدة فقط قالت لي: أحبّ حكايات قزمكِ حتى ولو كانت كذباً. وكنت معها أستمرّ في خلْق حكايات صديقي القزم: “فرفور”

أذكر أنني أخبرت جدّتي بما حدث، فأفسحت لي مجالاً لقصّ حكاياتي المجنونة على إخوتي الذين كانوا يضحكون منّي حين أتلعثم، أو أحاول تقليد صوت الوحش. ولكنّ جدّتي كانت تصرّ على أنّني خليفتها، تحكي لي القصص في الليل عندما أنام بالقرب منها، لأحكيها أنا لإخوتي. أتقنت فنّ الإلقاء ومسرحة الحكايات، وكنت دائماً أخترع نهاية أخرى للقصص، تضحك جدتي وهي تسعل، وتقول: ليست هذه هي النهاية أيتها الشقيّة.

في المرحلة الإعداديّة كان الأمر مختلفاً، فلم تعد تلك القصص تجعلني من الطالبات المميّزات، كانت الفتيات من حولي مشغولات بقصص الحبّ، وأنا لا أملك أن أصوغ حكاية كهذه، كنت أرتجف حين يتحدّثن أمامي عن علاقاتهنّ. بل إنني كنت أشعر بأنني أخسرهنّ مع تلك القصص، رحت أنغمس في الرسم، هوايتي الأخرى، وأبدع في مادّة التعبير، كانت مواضيعي مَثار إعجاب معلّمة اللغة العربية دوماً، تعلّقها على لوحة الإبداع في الصفّ، وتطلب من الطالبات تقليدي، ولكنني كنت أتلعثم، وأرتجف، ويضيع صوتي حين تطلب مني قراءة الموضوع أمام الصديقات، وكأنّني مع ابتعادي عن اختراع الحكايات فقدت مهارتي في الإلقاء.

القراءة كانت التفصيل الذي رافق عالَمي دوماً، بدءاً من قصص المكتبة الخضراء التي كنت أحفظها وأحكيها لإخوتي، مروراً بالقصص الإسلامية التي كانت تصلنا كهدايا من المعلّمات في المدرسة، أو القصص التي كنت أستعيرها من بيت صديق والدي، أو من مكتبة المدرسة. ولكنّ هديةً جميلة حلّـت في منزلنا، جعلت من أيامي ملوّنة بتفاصيل مدهشة، حين حمل زوج عمتي حقيبةً كبيرة ممتلئة بالكتب إلى بيتنا، وقال لأبي: “هذه للأولاد”. حينها رحنا نتعرّف إلى الكتب، وننتقي منها ما يهمّنا، قلت لإخوتي: “سأقرؤها كلّها”، سخروا مني، وقالوا: كم أنت مدّعية!

وبدأت بالقراءة، كان العمل الأول الذي قرأته هو رواية (البؤساء) لفيكتور هوجو، الرواية بأجزائها الثلاثة أخذت مني أسبوعاً واحداً، أنا ابنة الثانية عشرة، عشت مع جان فالجان تفاصيل البؤس كلّها، تعاطفت معه، وبكيت من أجله، ورحت أصوغ في خيالي لعالمه احتمالات تتلاقى في أحيان كثيرة مع ما كتبه الروائي، أراه في نومي، أجالسه حين تنقطع الكهرباء، وأتخيّل كفيّه الكبيرين الحانيين، وعلاقته بـ”كوزيت”، ونهايته التي جعلتني أبكي لأيام، كنت قد وعدته بأنني سأجعل له نهاية أخرى، نهاية سعيدة، ولكنني عندما كبرت، وبدأت بالكتابة، عرفت أنّ النهايات السعيدة نهايات سخيفة، ولا تليق بشخصية عظيمة كـ”جان فالجان”.

أكملت قراءة كتب الحقيبة الكبيرة كلّها خلال أربعة أعوام، كنت أقرأ كلّ كتاب ثلاث أو أربع مرّات، لأفهمه إن كان كتابَ فِكْرٍ أو فلسفة أو تاريخ، ولأعيد تفاصيله الجميلة إن كان رواية. أذكر أنني بعد أن أنهيت قراءة كتاب (الأمير) ذهبت لأختي الكبيرة التي كانت تحضّر لزفافها، وقلت لها: لقد قرأتها كلّها! قالت: ماذا قرأت؟ قلت حقيبة الكتب، ضحكت وقالت: وما همّي بكتبك! تعالي واكتبي لي رسالة جديدة وجميلة لخطيبي، وزيّنيها بالرسوم الجميلة كما تفعلين دوماً. تعالي سأُملي عليك ماذا تكتبين، خطّك أجمل من خطّي، وتتقنين صوغ العبارات. ثمّ أضافت ساخرة: فوائد كتب الحقيبة!

وعيت في السادسة عشرة من عمري أنني أستطيع أن أحوّل كلّ تلك الحكايات التي تدور في رأسي إلى قصص جميلة كتلك التي قرأتها، وأنني أستطيع أن أقول فيها كلّ ما لم أستطع قوله بالرّسم، وأنني أمتلك لغة جيدة، ومخزوناً معرفياً لا بأس به، فكتب الحقيبة تشهد لي، بل إنني مدينة لأوراقها الصفراء بالكثير.

اشتريت بمصروفي الذي كنت أدّخره منذ سنة دفتراً بأوراقٍ ملوّنة، أقلاماً جميلة، وألواناً غير تلك التي يشتريها لنا والدي كلّ عام، والتي كنت أسرقها من إخوتي هي ودفاتر الرسم، لأرسم ما يحلو لي. في ذلك العام، تركت لهم دفاترهم وألوانهم، وانشغلت بدفتري الجديد، وتجربتي الجديدة.

أوّل قصة كتبتها كانت عن القزم فرفور، ذلك الذي رافقني عندما كنت صغيرة، كانت القصّة عبارة عن رسالة أَرسلها لي من الصين، يخبرني فيها أنّه تزوّج وكَوّن أسرته، وأنّه يستعدّ مع عائلته لزيارتي، عندما قرأت القصّة لجدّتي قالت: هؤلاء قوم يأجوج ومأجوج.. بقصتك هذه تجعلين يوم القيامة يقترب!

ارتجف قلبي، ورحت أتذكّر كتاب أهوال يوم القيامة الذي كان من ضمن ما قرأته من كتب الحقيبة، وقرّرت أن أحرق القصّة كلّها، وألغي وجود القزم فرفور من رأسي، مزّقت الورقة بهدوء من الدفتر الملون، ورميت بها في المدفأة، ولكنّ تفاصيل زيارة القزم لمنزلنا مع أولاده لم تكن تفارقني، فرُحت أكتبها في آخر ورقة من دفتر اللغة العربية، وأمزّقها بعد أن أقرأها لنفسي، أثني عليّ، ثمّ أرمي بها في المدفأة. لاحظت معلّمة اللغة العربية أنّ حجم دفتري يصغر، وأنني أتلهّى خلال الحصة بكتابة أشياء أخرى غير متّصلة بالدرس، فأنّبتني أمام طالبات الصفّ، ولم تعد تهتمّ بما أكتبه من مواضيع.

تركت الكتابة بعد هذه الحادثة، وعدت للاهتمام بدروسي، وبدأت بكتابة المواضيع المتعلّقة بالشعر العربي القديم، وقد سحرني عمرو بن كلثوم، والشنفرى، رحت أحدّث جدّتي عنهما، وأحكي قصص سيّد تغلب الذي قتل ملكاً لأنّه أساء لأمّه، وسيرة الصعلوك الذي تمرّد على قومه، وكلاهما شكّلا مادّة لخيالي أحكي كلّ يوم عنهما قصّة جديدة.

عدت إلى الكتابة مع دخولي الجامعة، ورحت أكتب الشعر بداية، ولكنني كنت أكتب النصّ على ورقة بيضاء، أقول: “إنْ أعجبني أنقله إلى الدفتر الملوّن الذي لم أكتب فيه شيئاً بعد قصّة القزم”، ولكنني لم أنقل أيّ قصيدة إليه، كلّها كانت بالنسبة لي ثرثرة لا قيمة لها.

إلى أن تجرّأت يوماً، وفتحت الدفتر الملوّن، وكتب قصّة بدفقة واحدة، وكأنني كنت أسكبها سكباً، لم أرفع رأسي لنصف ساعة، ولم أُرِحْ يدي. خمس صفحات ممتلئات بحبر أزرق يأخذ شكل كلمات على المتن، ويرشح ببقع كبيرة على الهوامش. أغلقت الدفتر بعد أن فرغت، وخبّأته بعيداً عني، ونمت من دون أن تحضر أيّ شخصية من الشخصيات التي أبدّل لها مصائرها كلّ يوم إلى خيالي.

في الصباح فتحت الدفتر، وقرأت القصّة، أُصِبتُ بصدمة، وخشيت أنني لست الكاتبة، قرأت القصّة لجدّتي، فقالت: من أيّ جريدة تقرئين؟! شعرتُ بالخوف، تراني نقلتُ القصّة من مكان ما! قرأتُ القصّة لصديقة لي، فقالت: قصّة جميلة، من الكاتبة؟ خفتُ أكثر، وقلت لها: لا أعرف. ولكنني في الليل، أعدتُ قراءة القصة، وتذكّرت كيف كتبتُها، وكيف أنّ البطلة كانت في خيالي منذ زمن.

كرّرتُ التجربة لمرّات، وتجرّأت بالإفصاح عن اسمي أمام الصديقات والأصدقاء، وأمام جدّتي أولاً، جدّتي التي صفّقت لي، وقالت: “قلت سابقاً بأنّك ستكونين خليفةً لي، بل ستتفوقين عليّ”.

ولكنني ورغم ازدياد ثقتي بنفسي، وتَمَكُّني من أدوات الكتابة، لم أتجرّأ على نشر قصة واحدة في أيّ مكان، بل إنني رفضت المشاركة في أمسيات الجامعة، كنت أبتعد عن كلّ من يؤكّد أنني كاتبة، أؤكّد لصديقاتي، أكتب لكنّ فقط.

حتى منحت القصّة الأولى التي رضيت عنها تماماً جواز عبور إلى أحد أساتذتي في الجامعة، أثنى عليّ، وبدأتُ أثق بنفسي أكثر، وأثابر على القراءة والكتابة بشكلٍ غزير، تحوّلت الكتابة إلى هاجسٍ يسرقني من دراستي، من أهلي، من أصدقائي، رحت أتعامل مع الناس من حولي كشخصيات في قصصي، وأرسم لهنّ المصائر المتعدّدة، كنت أنهمك بمراقبة المارّة والباعة، والأطفال، وأكتب بغزارة، وكأنني أعوّض ما فاتني من وقت، أقول: تأخّرت.. تأخّرت كثيراً.

بدأت بالنّشر في الجرائد المحليّة، ومن ثمّ في المواقع الإلكترونية، حيث تعرّفت إلى عدد كبير من الأدباء الذين قدّموا لي الدعم الكبير، تحديداً الرّوائية السوريّة الكبيرة (ابتسام تريسي) وكان أن نشرتُ مجموعتي القصصيّة الأولى” كحلمٍ أبيض” في دار تالة للنشر في دمشق عام 2009، لاقت المجموعة رواجاً بين الأصدقاء في مختلف أنحاء الوطن العربي. وفوجئت ببعض التعليقات التي أسقطتني من العلوّ الذي وضعتُ نفسي فيه، فقد أشار الكثيرون إلى أنني أكتب بلغة شاعريّة، وأنّ قصصي تبتعد عن السّرد، وتغرق في اللغة، وأنني أكتب قصصاً حالمة، بعيدة عن الواقع، ولكنني كنت متمسّكةً برأيي، واثقة ممّا أكتب.

وكانت الحرب السوريّة نقطة تحوّل حقيقيّ في تجربتي مع الكتابة، حيث قطعتْ ذلك الحلم الذي أصعد نحوه، وأعادتني إلى واقعٍ مُغرِق في السّواد. عشتُ الحرب بكلّ تفاصيلها، عشت النزوح، العتمة، العطش، الخوف، الموت الذي بات حديثاً يومياً، الغربة التي احتلّت الوطن، وبدأت الكتابة تعني لي شيئاً آخر، صارت سقفاً يحميني، وحائطاً يسندني، وحبلاً يشدّني، وأماناً يقيني من ارتكاب حماقة ما.

ولكنني عدلتُ عن عادتي في ممارسة الكتابة كفعل يوميّ، صار الأمر يقتصر على بعض المنشورات على صفحتي على الفيس بوك، أمّا كتابة القصّة، فكانت تحتاج منّي الكثير من التأنّي والمراجعة والتعب.

في عام 2014 أصدرت مجموعتي القصصية الثانية “عالم آخر يخصّني” عن دار نون4 للنشر في حلب، والتي تنوّعت بين قصص قديمة وقصص من واقع الحرب، والتي بدأتُ فيها أتخفّف من اللغة، وأنحو نحو السّرد بشكلٍ أكبر، وأمضي باتجاه الواقع.

ولكنّ اللغة كانت تلحّ عليّ، تسرقني نحو الشعر مجدداً، فأنقذت بعض نصوص النثر، وضمنتها في كتاب “حلم يغفو على مطر” صدر عن دار أرواد للنشر والتوزيع عام 2015، كان استراحةً لغويةً يسكنها الشعر، وإن كنت أنفيه عن نفسي.

ورغم كلّ ضغوطات الحرب، وتفاصيل الوجع اليوميّ الذي عشناه في حلب، كنت أثابرُ على القراءة كفعلِ مقاومة لا أملك غيره، أقرأ كما أتنفّس، وأكتب بهدوء وحذر، أستعين بأساتذتي لتقييم ما أكتب كالدكتور الشاعر سعد الدين كليب، والدكتور والقاصّ المغربي عبد العزيز غوردو، والشاعر والقاصّ الفلسطيني الأستاذ خالد الجبور، كانوا رعاةً لي، لا يبخلون عليّ بالمشورة، ويدعمون تجربتي بكثير من النقد والتّوجيه، والإشادة حين أستحقّ.

وحلّت الحرب كثيمة أساسيّة في تجربتي الأدبية، وكان لا بدّ لها من ذلك، هي اللئيمة التي لا تترك لنا فرصةً للتنفّس خارجها، وكانت تجربتي القصصية الثالثة “أزرق.. رمادي” الصادرة عن سلسلة الإبداع العربي في الهيئة المصرية للكتاب عام 2020، وكانت المجموعة نقلة نوعية في أسلوبي القصصي، وتجربة أعتزّ بها، غير أنّها لم تلقَ ما تستحقّه من الحضور كونَها صدرت في عام منحوس، العام الذي تزاحمت فيه المصائب، واحتلّ فيه فايروس كورونا الحضور الأقوى، الموت الذي جاء في لون جديد، لم نشعر نحن السوريّين بغرابة في حضوره، بل كان تجربةً جديدة نطلق عليها اسم “الموت الأبيض” الموت الذي لا تتدخّل فيه الحرب.

خلال فترة الحجر الصحّي، دخلتُ عالم الكتابة الروائيّة، وكانت تجربتي الأولى المكتملة رواية “فاصلة بين نهرين” التي صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا عام 2021م.

كنت قد وعدتُ نفسي بالتزام الكتابة القصصيّة، وكنتُ أشعر بالغبن حين يسألني الأصدقاء بعد كلّ إصدار قصصي جديد: “متى ستكتبين رواية؟” وكأنّ كلّ ما كتبته لا شيء! وكأنّ الرواية هي النوع الأدبيّ الوحيد المقروء في هذه البلاد.

كنت أؤكد بأنّ من يكتب القصّة سيكتب الرّواية بكلّ سهولة، فالقصّة هي الأصل، وكنت بيني وبين نفسي أحاول، تِسعَ عشرة تجربة للكتابة الرّوائية، وكلّها لم تنجح لسبب ما، في معظمها كان السبب عدم اقتناعي بالفكرة، وفي بعضها كان السبب أخطاء تقنية فادحة، فبعد أن تعوّدت الكتابة على الحاسب، لم أعد أكتب على الورق، بل إنني فقدت تلك المهارة.

خلال فترة الحجر الصحّي، والخوف العالمي من ذلك الموت القادم، جعلنا نصدّق الخوف، ونلتزم البيت، تجربة جديدة بالنسبة لي، قرّرت استغلالها في الكتابة، وأمام الحاسب ظهرت شخصيّة نورس، تلك الشخصيّة التي كانت تزورني منذ سنوات، فأتحدّث إليها، وأحاورها، ثمّ أعيد دفْنها في عمق الذاكرة، هذه المرّة كان نورس أكثر قوّة، وأعلن عن نفسه بصوتٍ مرتفع، وقرّر أن يظهر في قالب جديد، وتجربة سرديّة جديدة، وكانت الرواية من اختياره.

للمرة الأولى منذ سنوات طويلة ألزمتُ نفسي بالكتابة اليومية، حدّدت لنفسي موعداً بعد صلاة الفجر، ورحت أصدّق كلّ ما يخبرني به نورس وصديقته سوسنة، رحت أعمل معهما، بل لديهما، أخبر العالم بقصّتهما، وهما يعيثان خراباً في عقلي، كلّ شيء في عالمي تَمَحوَرَ حولهما، وخلال أربعة أشهر كانا يحتلّان تفكيري بشكلٍ كامل، حتى انتهيت من كتابة الرواية، واستراح كلّ منهما على طريقته، أو ربما على طريقتي.

قرأتُ الرّواية لمرّات، وقرأها الأساتذة والأصدقاء، وقد التزمتُ بالنصائح والملاحظات، قبل أن أدفع بها راضية عن تجربتي الأولى في عالم الرواية، تجربة حاولتُ فيها تجنّب الاستطراد والحشو، تجربة كنت معها مقصّ رقيب على كلّ جملة زائدة، فحذفت الكثير، وجاءت الرواية قصيرة في 160 صفحة.

لم أترك عالَم القصّ بالتوازي، بل إنّ الشخصيات القصصية كانت تحتفل في رأسي، وتثير الفوضى حتى أكتبها، فأصدرتُ في العام نفسه مجموعتي القصصية الرابعة “ضوءٌ في الشرفة” عن دار نرد للنشر والتوزيع في ألمانيا.

ما زلتُ أحتفظ بدفتري الملوّن في مكتبي، الدفتر الذي ما زالت مِزَق القصّة الأولى تظهر فيه، قصّة القزم الذي ما زال يلحّ عليّ لكي أكتبَه قصّةً للأطفال، وأعده بأن أفعل يوماً. تمتلئ صفحات الدفتر بالقصص التي لم تحظَ بكتابٍ آخر لتولد فيه، حيث تنام مطمئنّة هناك، أعود إليها بين حين وآخر، وأخبرها بأنني القارئة المخلصة لها.

مدينةٌ بالشّكر لجدّتي ولكلّ قصصها التي كانت أوّل درجة أصعد عليها لأصل، مدينةٌ للقَزم الذي رافق حكاياتي، مدينةٌ لحقيبة الكتب الممتلئة، لكلّ كتاب قرأتُه، وكلّ كاتب تعلّمتُ منه، مدينةٌ للكتابة التي أنقذتني وما زالت، للشّخصيات التي تسرقني مني، وتعيدني إليّ (غفران) جديدة.
_______

*غفران طحان: كاتبة وقاصة سورية من مدينة حلب. ماجستير في اللغة العربية، وتعمل مدرّسة في وكالة الغوث الدولية- الأونروا في حلب. صدر لها: كحلم أبيض- قصص 2009، عالم آخر يخصني- قصص 2014، حلم يغفو على مطر- نصوص نثرية 2015، أزرق رمادي- قصص 2020، فاصلة بين نهرين- رواية  2021، ضوء في الشرفة- قصص 2021، كما شاركت بعدد من الكتب المشتركة، وترجمت بعض قصصها للغات أجنبية كالإسبانية والفرنسية والتركية والإنكليزية.

*النصّ نشر في مجلّة ميريت الثقافيَّة.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

زر الذهاب إلى الأعلى