*قاسم توفيق
يَرْبِضُ في داخل كلِّ واحدٍ منّا كاتبٌ متأهِّبٌ للانطلاق، وكلُّنا نكبحُ هذا الانطلاق لأنَّنا نخاف، فنكتفي بالكلام، فالكلام ليس موثقًا ولا مثبتًا. وكلُّنا نخافُ من توثيق مشاعرنا وعواطفنا وإيماناتنا وأفكارنا الصغيرة وأسرارنا لأنَّنا نخافُ الآخر. نحتفظُ بكمٍّ هائلٍ من الأفكار التي بها نعيشُ ونحلُمُ ونتخيَّلُ، لكنَّنا نخافُ من توثيق حقيقة وجودها. الكتابة هي جرأة المُواجهة. والكتابةُ المكشوفةُ والثائرةُ والصارخةُ بطولةٌ ومغامرة، وأنا لستُ بطلًا ولكنّني مغامرٌ، لذلك أكتب.
لا أدري كيف يكونُ الكاتبُ كاتبًا، أو لماذا يكتب؟ لكنّني بتجربتي المتواضعة الخاصّة أعرفُ أنّ الكتابةَ هي حالةُ بوحٍ بصوتٍ عالٍ، هي حالةُ صخبٍ يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ عواء الذئاب.
قد تكونُ تجربتي الروائيّة استنساخًا لتجربتي الحياتيّة، فإنْ كان مطلوبٌ منيّ أنْ أحكِيَ عن هذه التجربة، فلا بدَّ أنْ أخلَعَ برقعَ الحياء، وأنْ ألبسَ رداءً يكشف عُريي، وأنْ أتهيَّأَ لعشرات الرّصاصات التي سوف تنهالُ عليّ من القريبين أكثر من البعيدين.
سيرتي الكتابيّة لا تعدو غير امتدادٍ لسيرةِ العالَمِ الذي تكوّنْتُ في داخِلِه؛ رحْمُ أمّي، بيتُنا، الحارةُ، عمّان، وما تبقّى من الكرةِ الأرضيّة.
قَرَأتُ الكثيرَ عن ماهيّةِ وفلسفةِ المكانِ وتعلَّمتُها، لكن لم أعِشْها إلّا في الأدب الذي أقرأه أو أكتبه. الحديث عن المكان بأنَّه مُطلق، أو نفيه بأنَّه نسبيّ، أو أنَّه الحيِّز، أو أنَّه معزول عن العقل البشري، كلُّ هذه التفاصيل والاختلافات لم تَتْركْ في عقلي اللافيزيائي أثرًا أو نهجًا أتبعه في تفكيري عندما أفكر بماهيّة المكان.
ما أعرفُهُ بأنَّ رحمَ أمي كان بالنِّسبة لي مكانٌ، والبيتُ الذي وُلدتُ فيه مكانٌ جديدٌ، وحارتنا وعمّان وما تبقّى من الكرة الأرضيّة أمكنة أخرى، كلّها لم تكن ثابتة أو جامدة، بل لحظيّة التغيُّر والاختلاف. من الممكن أنَّ ذلك يَنتُج عن جدليّة تعامُل الحواس مع الأشياء، أو تأثُّرِهِ هو “المكان” بحركةِ الزمن. فالمكانُ كيانٌ ماديٌّ لحظيّ، ثابتٌ ومتحوِّل.
عشتُ العقدَ الأوّلَ من عمري في بيتٍ واحدٍ، ولكن ما أتذكَّره بأنه لم يكن البيتَ ذاتَه المرسوم في داخلي، ففي واحدٍ من تلك البيوت/ البيت؛ كنُّا أنا وأخوتي نعيش في سلام؛ نأكل وجبة الطعام في وقتها، ونلبس ما يقي أجسادنا من البرد أو الحرّ، وأحيانًا كُنّا نتجَّمل. وفي بيتٍ آخر/ البيت ذاته، عشنا أيّامًا لم نجد فيها ما يسدّ رمقنا أو يستر عرينا. في واحدٍ من هذا “البيت/ البيوت” كان أبي موجودًا يُضحكنا ويُلاعبنا ويؤدِّبنا، وفي واحد آخر كُنّا أيتامًا. هو البيت ذاته لكنه لم يكن هو؛ بل كان أمكنة وأزمنة ولربّما تهيُّؤات.
المكان الأوَّل الذي أعرفُه؛ رحمُ أمي، فقد سكنتُ فيه تسعة أشهر، والمكان الأوَّل بعده كان المهد الذي تلقَّفني بعد أن جئتُ إلى الأرض، والمكان الأوَّل الجديد صار الحارة التي شاهدتُ فيها العالم للمرّة الأولى. المكان الأوّل، ولكي لا نفقد نكهته مهما كان طعمُها أو شكلُها؛ هو الحلم الواعي الأوّل الذي حلمت، والفرح النقيّ الذي انزَرَعَ في داخلي إنْ نجحتُ، أو حصلتُ على بضعة قروش، وهو الموسيقى التي هزّتني أوّل مرّة، والكتاب الذي حفر أحرفه الأولى في عقلي، والمرأة التي صارت حبيبتي بعد أمي. إلى أنْ حطَّ بِيَ العمرُ في قلب امرأةٍ لعوبٍ، شقيَّةٍ، مشاكسةٍ اسمُها “عمّان”.
منها وفيها كانت البداية، أوهَمَتْني بأنّ العالم لا بدَّ أن يصيرَ أجمل، لأنه لا يليق بهذا الكوكب الصغير الجميل الذي أعيش فيه سوى الفرح، وآمنتُ بأنَّ مقدِّمات تحوُّل كوكَبِنا إلى الأجمل، لا بدَّ أن تكونَ من مدينتي الحلوة. ولأنّي كائنٌ ساذجٌ صدَّقتُ كل ذلك، وأعلنتُ عن هذا الأمل بصوتٍ مرتفعٍ في مجموعتي القصصيّة الأولى “آن لنا أنْ نفرح”. كُنّا آنذاك نعيشُ في أكثر من معتَقَل، معتقلات الجوع والفقر والاضطهاد وزنازين المخابرات، لم أكترثْ لكلِّ هذا الحصار فأصدرتُ مجموعتي القصصيّة الأولى “آن لنا أنْ نفرح”، في العام 1977، في هذه المجموعة ذكرتُ اسمَ “عمّان” علنًا، وجعلتُ من زقاقِها وحاراتِها وناسِها وأحداثِها مشروعي الكتابي الأوّل.
كلُّكُم تعرفون بأنَّ اسمَ “عمّان” كان آنذاك يُعدُّ واحدًا من التابوهات، مثله مثل الدين والسياسة والجنس. تَسَلُّطُ الرَّقيبِ حرَّمَ علينا ذكر اسم المدينة التي جئنا من رحمِها، هذه حقيقةٌ يعرفها القرّاء، وأقَرَّ بها الكثير من الكتاب الأردنيين الذين كان عندهم ما يبرِّر تخلّيهم عن ذكر اسم مدينتهم، لأنه كان من المؤكد أنْ يقعوا تحت طائلة المُساءلة إنْ هم كتبوا رواية أو قصة عن الفساد أو القمع وتجرَّؤوا وجعلوا المكان “عمّان”؛ لأنهم إنْ فعلوا يكونون قد وجَّهوا أصبع الاتِّهام إلى الفاسدين فيها.
سذاجة الرَّقيب، أو خوفه، أوْدَت بعشرات الأعمال الإبداعيّة إلى الهلاك. فالتجأ الكتّاب إلى اختراع أماكن غريبة عن “عمّان”. سافروا في شخوصهم وأحداثهم، وحتى أماكنهم، إلى بيروت أو القاهرة أو فلسطين المحتلة التي لم يزوروها أبدًا. وسيلة من أساليب التخفّي أمام مقصِّ الرَّقيب وأمامَ المُخبِر والاعتقال.
لم أكن قادرًا على احتمال هذا الأمر، وأنْ أرضخَ لصداع تابوه جديد يُعلَّق فوق رأسي. فأصدرتُ مجموعتين قصصيّتين؛ واحدة كان اسمها “سلامًا يا عمّان، سلامًا أيتها النجمة”. بعدها نشرتُ من بيروت روايتي الأولى التي تُعدُّ الأكثر جرأة في الأدب الأردني آنذاك، وحتى وقت قريب؛ “ماري روز تعبر مدينة الشمس”، أحداث هذه الرواية المعاصرة وتلك التي حدثت في القرن التاسع عشر كلها كانت تدور في “عمّان” وفي قرية “الفحيص” القريبة ومع أهلها العريقين. لم أرفض الانصياع لتابوه اسم “عمّان” بحسب في هذه الرواية، بل حاولتُ أنْ أفلتَ أيضًا من ثالوت التابوهات التاريخي؛ السياسة والجنس والدين.
لا أدّعي البطولة ولا الجرأة ولكنَّني إنسانٌ معتدٌّ بموقفه من الحياة بكلّ تفاصيلها، فعندما حطَّمتُ هذا “التابو”؛ الكتابة عن عمان، لم أكن معنيًّا بغير أنْ أكونَ أنا، وليذهب النَّشر إلى الجحيم، لأنه يكفيني أنْ أقرأ قصَّتي لأمي، أو لرفاقي في الجامعة أو لحبيبتي.
***
حياةُ كلِّ واحدٍ منّا مجموعة مُتشابكة من الحكايا والقصص، الرِّوائيُّ هو مَن يمتلكُ الذاكرة الحاضرة والغائبة ويمتلكُ القدرة على إعادة سرد هذه الحكايات، إنَّ حالة الإلهام التي تأتي من الواقع إلى نفس المؤلف لا تكون من ذات الشخصيّة أو الحدث، بل من طريقة تشكُّلها في وعيه وفي لا وعيه، لذلك نجد أنَّ الكثير من الأماكن التي تكون مُلهِمة للمُبدع، تتحوَّل وتصير غريبة عن تلك التي كان فيها، ولأنّي لا أؤمن إطلاقًا بفكرة فطريّة الموهبة، بل إنّي على قناعة بأنَّ هذه المقدرة التي يتملَّكها الكاتب في خلق شخوصه وأزمنته وأحداثهما والمكان، كلها نتاج تجربة وثقافة أهمّ ما يميِّزها أنها تجربة وثقافة جمعيّة، يكتُبُها راوي أو شاعرٌ أو فيلسوف.
مُنعَت روايتي الثانية “أرضٌ أكثر جمالًا” من النشر، وتمّ حرقها في حديقة دائرة المطبوعات والنشر تحت باب التهمة ذاتها؛ التطاوُل على “عمّان”. ما حدث لرواية “أرض أكثر جمالًا” (الأرض التي أقصدها هي “عمّان”)، أنَّ دائرة المطبوعات والنشر في “عمّان” قامت بمُصادرة الرواية حال دخولها الأردن، وتمّ منعُها من التداول، والأهمّ من ذلك أنه قد تمّ إتلافها بحرقها في برميل كان في ساحة خلفيّة لهذه الدائرة أمام ناظري، وتمَّ إجباري على مشاهدةِ إعدامِها حرقًا. ذُكِرَت هذه الحادثة في مواقع عدّة أهمها كان المجلة المهمّة التي كانت تصدر عن دار الريِّس آنذاك “الناقد”، وقد نشرتُ فصلين من هذه الرواية تحت عنوان “ممنوع من النشر”.
لا أستبعدُ أنْ يكونَ المكانُ هو مَن أقْحَمَ نفسَهُ في كتاباتي بدءًا من تشكُّله في ذاكرتي مرورًا بتحوُّلاته حتى يصل عند مَن يقرأني. أماكنُ الروايةِ هي جزءٌ من صنْعتِها ومقوّماتِها مثل الشخوص والأحداث والأزمنة؛ تبعثها كلها للوجود؛ الفكرة. فما يشكِّله الكاتب هو المكان الروائي وإنْ كانت مدلولاته ومسمّياته مشابهة لبقعة ما على الأرض، ويظلُّ في حالة جدل مع الشخصيات والحوادث والأزمنة والأماكن التي تصنع فضاء الرواية. لو افترضنا أنَّ قارئًا لرواياتي لم يسبق له أنْ شاهَدَ “عمّان” وحَدَثَ أنْ زارَها، أعتقدُ بأنه لن يجدَ أنها هي المدينة نفسها التي قرأ عنها، ولا أماكنها هي نفسها التي كتبتُها وأعطيتها الأسماء ذاتها.
ما يهمُّ أنَّ جماليّات المكان ليست في تشكيلها الهندسي، ولا في معمارها، بل بأثرها في النفس، لقد أُتيحت لي فرصةُ السَّفَرِ لعددٍ كبيرٍ من دول العالم، ومن خلال هذه الفرصة المهمّة استطعتُ أنْ أصلَ لقناعةٍ بمدى قدسيّةِ الأمكنة.
عندما نمعن النَّظر في المدن ونراها من خلال ساكنيها وتاريخها، نكون وقتها نراها على حقيقتها. لذلك لم تبهرني المدن الحديثة، لأنها لم تترك أثرًا جميلًا في روحي، شعرتُ بالاختناق في “لندن”، وعشقتُ صنعاء التي كانت تطوف بي حول الكون منذ خُلق آدم. أشتاق لـ”غزّة” و”روما” كثيرًا ولا أفتقد “نيويورك”. إنَّ جمال الأماكن يربض في روحِها التي يجب أنْ نوقظَها.
من هنا كانت علاقتي بـِ”عمّان”/ المكان، التي أتصوَّرُ بأنّي قد عرفتُ كيف أوقظُ روحَها.
______
*قاسم توفيق: كاتب أردني من أصول فلسطينيَّة، دأ الكتابة في عام 1974 بنشر مجموعة من القصص القصيرة في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، وأصدر أول مجموعة قصصية أثناء دراسته في الجامعة الأردنية بعنوان “آن لنا أن نفرح” سنة 1977. برز اسمه في عالم الأدب محليًا وعربيًا مع إصدار روايته الأولى “ماري روز تعبر مدينة الشمس” والتي لقيت أصداء واسعة لما احتوته من إبداع على مستوى الموضوع والنص. أصدر عددا من الروايات منها: “ماري روز تعبر مدينة الشمس”، “أرض أكثر جمالاً”، “عمان ورد أخير”، “ورقة التوت”، “الشندغة”، “حكاية اسمها الحب”، “البوكس”، “رائحة اللوز المر”، “صخب”، “حانة فوق التراب”.