*كاميليا حسين
من كاليوبي مُلهمة الشعر الملحمي، إلى ثاليا مُلهمة الكوميديا، وميلبوميني مُلهمة التراجيديا، وصولا إلى وادي عبقر في اليمن الذي قيل إن شعراء الجن سكنوه منذ زمن طويل، وإن مَن أمسى ليلة في هذا الوادي جاءه شاعره من الجن يُلقِّنه الشعر، كانت فكرة الإلهام القادم من السماء حاضرة دوما في الثقافات المختلفة لتفسير إبداعات الفنانين، لتصبح الصورة الشائعة للفنان هي ذلك الهائم على وجهه في انتظار الإلهام، الذي يُطلَق عليه أحيانا الوحي، في إشارة إلى أنه يُقذَف في قلب الفنان أو يُلقَى على لسانه في لحظات متوقَّعة، هكذا دون اتفاق.
كثيرا ما عطَّلت هذه الصورة العديد من المبدعين، أيًّا كان مجال إبداعهم، ودفعتهم إلى المماطلة والتسويف، تضيع منهم الأيام والسنوات وهم جالسون بلا عمل في انتظار إلهام لا يأتي. لكنَّ آخرين غيرهم اختاروا طريقا غير ذلك، أقل ارتباطا بالإلهام، وأكثر صلة بالانضباط وبذل الجهد.
على سبيل المثال، يُعرَف عن نجيب محفوظ التزامه بروتين صارم للكتابة، وتخطيط حازم لوقته ويومه. فرانز كافكا أيضا التزم بوظيفة من الثامنة والنصف صباحا حتى الثانية والنصف عصرا، بعدها كان يتناول الغداء ويأخذ قيلولة حتى السابعة والنصف مساء، ثم يشرع في الكتابة بدءا من الحادية عشرة مساء ولعدة ساعات قبل أن يخلد إلى النوم، وهكذا يوميا.
بالمثل كانت مايا أنجيلو تستأجر غرفة في فندق للكتابة، من السادسة والنصف صباحا وحتى الثانية مساء، ثم تعود إلى المنزل. أما هاروكي موراكامي فكان هو الآخر يستيقظ في الرابعة صباحا ويكتب لمدة 5 ساعات ثم يذهب للجري. لم ينتظر أيٌّ من هؤلاء الإلهام المزعوم أبدا، ولكنهم التزموا بروتين ثابت للعمل والإبداع، وخلقوا إلهامهم الخاص في نهاية المطاف.
في السياق ذاته، يؤكِّد أمبرتو إيكو، الفيلسوف والروائي الإيطالي الكبير، في كتابه “يوميات روائي ناشئ” أن الإلهام هو “كليشيه” يُكرِّره الروائيون بلا سبب واضح، ربما لحفظ أنفسهم في مكان مختلف عن بقية العالم، وحينما قيل عن روايته “اسم الوردة” إنها “إبداع سحري”، خصوصا أنها انتهت في أربع سنوات فقط، رد قائلا إنه دارس جيد لتاريخ القرون الوسطى بحُكم تخصُّصه، ما سهَّل عليه الرواية، ويُضيف إيكو أنه كتب رواية “بندول فوكو” لمدة 8 سنوات، وروايتَيْ “جزيرة اليوم السابق” و”باودولينو” لمدة 6 سنوات لكل واحدة منهما، ثم أنهى الحديث عن هذا الأمر قائلا: “لقد تعلَّمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الأولى، منها أن الإلهام كلمة سيئة”.
كيف تصبح محترفا؟
لا يقتصر الاختلاف بين الفنان المحترف والفنان الهاوي (وبين كل محترف وهاوٍ في كل مهنة أو صناعة) على المهارة فقط، لكنه يتعدَّى ذلك إلى المنظور الذي يتعامل به كلٌّ منهما مع الإبداع. بينما ينتظر الفنان الهاوي الإلهام أو المزاج المناسب للعمل على إبداعه، يحتاج الفنان المحترف إلى تبني الإبداع بوصفه عادة منتظمة بغض النظر عن حالته النفسية أو المزاجية، وأن يبدع كلما جلس إلى العمل.
هناك اعتقاد خاطئ أن احتراف الفن يقتل الإبداع، حتى إن بعض الفنانين اعتبروا أن “نجيب محفوظ” حالة غريبة وشاذة في التزامه الشديد بنمط أو روتين عمل يومي لا ينقطع، قائلين إن الإبداع ينطوي على درجة من الفوضى في جوهره، بل لعلهم يلومون المبدع حين يسلك طرقا مُعبَّدة سلفا مُتَّبِعا خطوات أسلافه، وهو ما يتنافى مع جوهر الإبداع من وجهة نظرهم.
لكن الواقع أن المسيرات المهنية للفنانين المحترفين يختلف بعضها عن بعض، وأن أيًّا منهم لم يسر في طريق مُعبَّد، بل على العكس، جميعهم تعرَّضوا لعراقيل واتخذوا منعطفات خاطئة. (2) الأمر ذاته يجري على مختلف ألوان المهن الإبداعية كالكتابة أو الصحافة أو حتى البحث العلمي، قد تواجه العديد من المعوقات التي تشبه وحوش الليل، وهي تُحجِّم موهبتك وتُحاصر إنتاجك، ولكن لحُسن الحظ هناك دوما طرق للتغلُّب على الأمر.
وحوش الإبداع
تذكَّر دائما أن العمل المستمر هو مِرَان مستمر. يَهاب بعض الفنانين ألا يُنتجوا إبداعا جيدا يوميا، وهو ما يَحول بينهم وبين الجلوس اليومي للعمل. لكن هذا الخوف من إنتاج العادي يَحول بينك وبين الإبداع المُنتظَر.
يشبه الأمر تمارين الرياضة، أو محاولة رفع أثقال أكبر من الأرقام التي سبق أن رفعتها، وهكذا يجلس المبدع للعمل على فنه بانتظام يوميا، أيًّا كان المنتج الذي ينتهي منه في نهاية اليوم، وأيًّا كان مدى ابتعاده عن الصورة المثالية للإبداع التي يطمح في الوصول إليها، مُدرِكا أن ما يُنتجه يوميا مجرد مِرَان وخطوات ساعية تجاه إبداعه الأفضل.
لا يهدف أي مبدع إلى إنتاج عمل أقل من المتوسط، لكن على المبدع أن يسمح لنفسه بالعمل في الأيام التي يُنتج فيها عملا بجودة أقل من المتوسط، لأن هذا هو الثمن الذي تحتاج إلى أن تدفعه للوصول إلى الإبداع بالجودة المنشودة. (3) قد تتسبَّب تلك الإنتاجات منخفضة الجودة في زيادة اللوم والنقد الداخلي، لكن هذا النقد نفسه ضروري كي لا تسقط في فخ الغرور أو الرضا الزائد عن النفس، وهما أيضا من أعداء المبدع. لكنك رغم ذلك تحتاج إلى تحييد هذا الصوت بعض الشيء، وأن تسمح لنفسك ببعض الصمت والهدوء والتفاؤل العنيد.
ترتبط تلك الرغبة المُعطَّلة في الوصول إلى الكمال بعادة سيئة أخرى هي التسويف. في دراسة نُشرت عام 1991، وُجد أن 20% من البالغين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم “مُسوِّفون مُزمنون”، مما يعني أنهم يؤخرون المهام في المنزل والمدرسة والعمل والعلاقات، وأن هذا النمط هو أسلوب حياتهم. (4) تُعَدُّ المماطلة أو التسويف أحد أكثر العوائق المُعطِّلة للمبدع، وللتغلُّب عليها هناك عدد من الحِيَل الصالحة دائما، فقط إذا ما التزمت بها.
حلول لجلب الإبداع
أولى هذه الحيل هي الالتزام، ضع جدولا للعمل والتزم به. عادة ما نُسجِّل مواعيد الأطباء ومواعيد التمارين وغيرها في جدولنا اليومي، وهكذا نفعل مع التزاماتنا كافة تجاه الآخرين. نحتاج إلى أن نحترم التزامنا تجاه الإبداع بالطريقة نفسها. جَدْوِل مهامك وسجِّلها، وحين تبدأ التزاماتك تجاه الآخرين تأخذ من الوقت المخصَّص لإبداعك، فربما تحتاج إلى أن تتعلَّم كيف تقول “لا” (5).
بعد ذلك، وبدلا من استهداف الوصول إلى المنتج الإبداعي النهائي مرة واحدة، قسِّمه إلى مراحل أو أهداف أصغر. على سبيل المثال، إذا كنت تكتب رواية، فبدلا من وضع هدف كتابة الرواية هدفا نهائيا، قسِّمه إلى أهداف صغيرة مرتبطة بفترات زمنية محددة، كأن تكتب فصلا كل شهر. إذا كنت ترسم لوحة، فحدِّد فترة للرسم، وفترة زمنية أخرى للتلوين، ووقتا لوضع اللمسات النهائية، وتأكَّد أنها أهداف محددة وقابلة للقياس والتحقيق في الوقت المحدد.
في غضون ذلك، تذكَّر أنك تحتاج إلى تحمُّل المسؤولية عن حياتك المهنية والإبداعية، دون خلق أعذار أو لوم الآخرين. أنت أيضا مسؤول عن إدارة العديد من الشؤون الأخرى الواقعية والعملية، التي رغم عدم انتمائها للعملية الإبداعية فإنها مرتبطة بعملك وإبداعك بصورة أو بأخرى، مثل الأمور المالية، وتنظيم العلاقات العملية المرتبطة بتلقي إبداعك (مسؤولو النشر إذا كنت كاتبا، أو مسؤولو قاعات العرض إذا كنت رساما على سبيل المثال)، وتذكَّر أنك لن تتمكَّن من تغيير الظروف لكنك مسؤول عن إدارتها. (6) يمكنك أيضا تجربة بعض التقنيات التالية من أجل تحسين حياتك وبيئة عملك، والحصول على تجربة إبداع مثالية إلى حدٍّ كبير.
جرِّب أسلوب العصا والجزرة
لقد تدرَّبنا منذ الطفولة على الاستجابة للتكليفات الخارجية والالتزام تجاه الآخرين أكثر من الالتزامات الشخصية. ضع نظاما للعقوبة والمكافأة مع شخص آخر وامنح له هذا الحق في إلزامك.
غيِّر مواعيد التسليم
من الحِيَل الذهنية التي يعمد البعض إليها لتقليل التوتر الناتج عن ضغط مواعيد التسليم تسجيل مواعيد أبكر قليلا في جدول العمل أو التقويم الخاص بك. (7).
الإبداع بوصفه مشروعا يوميا
سُئل سومرست موم إن كان يكتب وفقا لجدول أم عندما يأتيه الإلهام، ليُجيب: “أكتب عندما يأتيني الإلهام، لكن لحُسن الحظ يأتيني دائما في تمام التاسعة من كل صباح”. يشرح ستيفن برسفيلد في كتابه “حرب الفن” هذه الفكرة، ويؤكِّد التفرقة بين ما هو عاجل وما هو ضروري، وأن عليك أن تبدأ بما هو ضروري، وما هو ضروري في حالة المبدع هو إبداعه. إن مجرد معرفة ذلك غير كافية دائما، فلا بد أن يتبع هذه المعرفة التزام ومثابرة، وهكذا تجعل إبداعك ركنا أساسيا في حياتك اليومية غير قابل للتفاوض.
فبينما تحاصرك العديد من المُشتِّتات والعوامل الخارجية التي لا تستطيع التحكم فيها، تحتاج إلى أن تمضي قُدما في مسارك رغم الرفض والعوائق المادية والمُشتِّتات، أعِد فحص وضعك الإبداعي دوريا، وقيِّم سعيك وعملك.
طوِّر مهارات عملية لخدمة إبداعك
بالإضافة إلى تطوير فنك وشحذ طاقتك الإبداعية، تحتاج إلى تطوير أدوات ومهارات عملية وواقعية لخدمة إبداعك، منها مهارات متعلقة بإدارة المال ومبيعات أعمالك، وجدولة مواعيد التسليم بحيث لا تتعارض، وكذلك مهارات التعلُّم لدراسة كل ما هو جديد من أساليب فنية أو مجالات قد تبدو بعيدة عن الفن لكنها تخدم إبداعك.
غرفة تخصك وحدك
يحتاج الفنان إلى مساحة خاصة للعمل على مشاريعه الإبداعية بلا مقاطعة، ويحتاج إلى وقت للتفكير وإطلاق الخيال واستعادة التوازن الداخلي، ولهذا عليك أن تضع حدودا واضحة مع المتطلبات العائلية والاجتماعية التي تتعارض مع إنتاجيتك الإبداعية. وفي هذه الساحة لا تستلم لطوفان الرسائل والمكالمات. هل تبدأ صباحك بالرد على المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني والرسائل النصية؟ تحتاج إلى إعادة التفكير في هذه المراسلات وترتيبها وفقا للأولويات.
العناية بالذات
اخلق وقتا مُخصَّصا للعناية الذاتية، تأكَّد من حصولك على ما يكفي من النوم والتغذية المتوازنة وشرب ما يحتاج إليه جسمك من المياه، وخصِّص وقتا للحركة والتواصل مع أحبائك، واحرص على الوجود في مساحة مُرتَّبة خالية من الفوضى المادية والعقلية أيضا.
أحِط نفسك بأشخاص داعمين
تُعَدُّ عملية الإبداع عملية فردية، حيث تقضي كل يوم وقتا طويلا بمفردك. ومع ذلك تحتاج إلى فريق داعم يسير معك في طريقك، أشخاص يمكنك تبادل الأفكار معهم بحُرية. (7)
النصيحة الأخيرة هنا أن تغتنم لحظاتك الذهبية، وهذه لا يمكن لغيرك أن يرشدك إليها. لسنوات كافح العالِم أوتو لوي مع مشكلة في بيولوجيا الخلية، وذات ليلة، طرأ عليه نهج جديد لحل المشكلة أثناء نومه. في الظلام، أمسك بقلم وسجَّل أفكاره الجديدة وعاد إلى النوم. وفي الصباح، لم يستطع قراءة كتاباته! في الليلة التالية كان ينعم بوميض البصيرة نفسه، لكنه هذه المرة لم يُخاطر، انتزع ملابسه وتوجَّه مباشرة إلى مختبره، وقد حصل على جائزة نوبل عن العمل الذي بدأه في تلك الليلة.
_____
المصادر
The Myth of Creative Inspiration
How Art Careers Happen
How to Make Art A Habit If You Want to Make Art into a Career- You Can’t Wait to be Inspired to Create.
The Prevalence of Procrastination Everyone isn’t doing it.
honoring commitment creative work
Winning Traits of Successful Artists
Stop Procrastinating Now!
المصدر : الجزيرة