كيف نكتب؟

رسم الشخصيّات

* دايانا داو بتفاير

كيف يخلق الروائي شخصيّات مقبولة؟ أيخلقهم من لا شيء، أو يستنسخهم من أناس حقيقيّين؟ الإجابة في أحد هذين الاثنين، بل إنّها مزيج منهما. فينبغي علينا أن نستقي مخلوقاتنا الوهميَّة ممّا نعرفه عن أنفسنا وعن الناس الذين قابلناهم. إنَّ كتّاب القصَّة هم أناس ذوو أوجهٍ متعدِّد، وبعض شخصيّاتهم هي تطوّرات لأنفسهم.

“مهمَّة الروائي هي أن يرى ويقول بوضوح ما هم عليه الناس”، بهذا القول البسيط لخّص جون ماسترز فنّ رسم الشخصيّات. ولكن (كيف) يتوجَّب علينا أن نرى بوضوح ونقول بوضوح؟ الشطر الأوّل من السؤال يعتمد على فهمنا للطبيعة الإنسانيَّة، ويعتمد الشطر الثاني منه على تكنيك آخر مهما كان قريبا، ويصعب فهم سلوك شخص الكتابة الذي نكتسبه من الدراسة والخبرة.

إنَّ الشخصيّات في الرواية ينبغي ألا تستمدّ مباشرة من الحياة. فلا أحد يكشف عن تجربته السريَّة وعن كل أمله ومخاوفه وعاطفته إلى شخصٍ آخر مهما كان قريبا، ويصعب فهم سلوك شخص تمامًا ما لم نعرف تاريخه الكامل منذ طفولته المبكّرة. لهذا، أن نضع شخصًا حقيقيًّا في الرواية، وأن نبتكر أفعالا وهميَّة له هو أشبه أن نبني بناية دونما أساس متين. إنَّ أفضل طريقة لخلق شخصيَّة هو أن نبتكر شخصًا بكامله.  إذن، تكون أنت في موضعٍ تبتكر سلوكًا له لا يكون مقنعًا حسب بل حتميًّا.

 ولو أنّك أخذت شخصًا من الحياة الحقيقيَّة فستفرض عليه نشاطات لا تعنيه أسباب جذورها. إنَّ الكتّاب المتمكّنين، بالطبع، قد فعلوا هذا الشيء ذاته، لكنّني بالتأكيد لا أنصح بذلك. وبعض الكتّاب يذهب إلى أنّ كل شخصيّاته وهميَّة ولا تحمل شبهًا لأي شخصٍ حقيقي، ميِّت أو حيّ، لكن هذا الرأي لا يحمل أي ثقل منطقي أو مشروع مهما كان.

إنَّ أحد مقاصدك الرئيسة بكونك روائيّا هو ان تجعل قراءك يهتمّون بماذا حدث لشخصيّاتك. هذا هو سرّ القراءة الممتعة. فإذا كان على القارئ أن يهتمّ بشخصيّاتك، فعليك أن تهتمّ بها نفسك، لذا لا يغرّنك الاستمرار بالرواية ما لم تشعر بانهماك مكثّف بشخصيّاتك الرئيسة. ولكي تجعلها حقيقيَّة في الحياة ينبغي أن تفهم دوافعها، الجيِّدة والرديئة. فإذا كنّا صادقين فسنستطيع أن نفهم دوافعنا، ومن هنا يجب أن نستخدم أنفسنا كنماذج.

إنَّ الروائي يجب أن يسائل نفسه باستمرار: “لماذا قلت ذلك؟”، “لماذا فعلت ذلك؟”، “لماذا أنا حسّاس من أشياء معيّنة؟”. إنَّ دراسة علم النفس ذات فائدة، ولكن من الأفضل أن تدرس نفسك بموضوعيَّة، وتدرس الآخرين بشكلٍ متعاطف بحيث يسعك أن ترى مبادئ الطبيعة الإنسانيَّة في عملك وتحدّد روايتك نتيجة لذلك. كل شخص على قيد الحياة هو مختلف، وأنت- بصفتك روائيًّا- ينبغي أن تخلق أناسًا أكثر، أناسًا جددًا تمامًا.

لماذا تبدو بعض الشخصيّات “كارتونيَّة”؟ إنَّ الحوار المتكلّف يستوعب الكثير من المناقشة، ولكن كما أظن ستجد أيضًا أنّ الشخصيَّة الكارتونيَّة إمّا أن تكون جيِّدة جدًا أو رديئة جدًّا.

من الأعراض الأخرى للشخصيَّة الكارتونيَّة هو أنّها تبقى الشيء نفسه على امتداد الرواية. النّاس في الواقع يتغيّرون ببطء نتيجة لتجاربهم. ينبغي أن يكون هناك تحوّل تسبّبه الأحداث التي تبتكرها؛ فالشخصيَّة المركزيَّة يجب أن تتطوَّر في سياق الرواية وتكتسب مواقف جديدة، ويفضَّل أن تكون مواقف أكثر حكمة، فأنا اؤمن بالتوليد وليس بالانحطاط.

يتطلَّب قدرًا كبيرًا من “الزمن التأمّلي” قبل أن يكون باستطاعة الشخصيَّة أن تتطوَّر كليّة في الذهن. وإذا شعرت أنَّ إحدى شخصيّاتك تفتقر إلى العمق فهذا بسبب أنّك غير متأكِّد من طبيعتها الحقيقيَّة. وإذا لم تعرف شخصيّاتك جيّدا بحيث تشعر أنّك في حضورهم في أثناء ما تكتب، فإنّها تعلو على المخلوقات التي هي من لحمٍ ودمّ.

كم من الوصف البصري عليك أن تقدِّم؟ هذا منوط بك، ولكنّني أظن أنَّ القارئ الحديث يفضِّل أن يصوِّر الشخصيّات بنفسه، مؤسّسًا انطباعاته على تفصيلات قليلة اختارها جيّدا.

قد تمارس رسم الشخصيّات عن طريق وصفك لإنسان تعرفه، اختر شيئًا واحدًا لتوضيح شخصيّته. على سبيل المثال: امرأة عجوز ترتدي أحذية رجّاليَّة، فتاة لا تمتلك إذنًا موسيقيَّة تترنَّم باستمرار بإغانٍ شعبيَّة، تلميذ صغير ذو سيقان نحيفة يعلِّق جواربه دائمًا حول كواحله.

اجعل شخصيّاتك تكشف عن نفسها بالتدريج، كما يفعل الناس: المظاهر أوّلا، الصوت، السلوك، بعد ذلك المواقف. ولتبرز الجوانب العميقة للشخصيَّة فيما بعد، رغم أنّ بعضًا منها تكون ضمنيَّة منذ البداية. واستمرّ على تذكير قرّائك (دون تدخّل) بالحقائق التي تطرحها، فإذا كنت تصف امرأة ذات يدين مرتجفتين، فإنّها تجد من الصعوبة فيما بعد أن تضع المفتاح في القفل، وسوف يتذكَّر القارئ الأيدي المرتجفة، حتّى لو كان ذلك بعد ستَّة فصول. وإذا كنت تتصوَّر فتاة ترغب في شراء معطف جلدي، فعليك أن تجعلها تضغط أنفها أمام زجاج المحلّ ونعرف عند ذاك الأم تحملق.

وحين تخلق شخصيَّة شرِّيرة، فعليك أن تعرف (لماذا) هي شرّيرة. اكشف عن اضطرابها وبؤسها وكذلك عن خبثها. ولكي تصدر حكما، فإنَّ شخصيّتك مزيج من الخير والشرّ كما نحن. ربما تكره شخصيّتك المحبّبة إليك بين آونة وأخرى مثلما نكره أصدقاءنا حين يستعرضون جوانبهم السيِّئة أمامنا. تصبح الشخصيَّة أحيانًا حقيقة بحيث أنّها ترفض أن تنصاع إلى ما خطّطته لها. وحين يحدث ذلك، لا تلغِ  هذه الشخصيَّة، فهذا يعني أنّك قد خلقت شخصًا حقيقيًّا ذا إرادة خاصَّة به، وهذه لحظة رائعة في حياة الروائي. إنَّ خلق الشخصيَّات الوهميَّة هو لبّ الكتابة الروائيَّة، وإمكانات هذا الخلق لا تنضب.
______
*النصّ مأخوذ من كتاب (الرواية وصنعة كتابة الرواية) / ترجمة وإعداد: سامي محمد/ منشورات دار الجاحظ للنشر/ الموسوعة الصغيرة- الطبعة الأولى أيلول 1981.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

زر الذهاب إلى الأعلى