*أحلام بشارات
عرفتُ المزارعين الرُّحَّل وعشت بينهم، وكنت واحدة منهم. تتنقل عائلات المزارعين الرُّحَّل من مكان سكنها، في القرى، حيث البيت الثابت، المبني من الإسمنت، الذي لا تضربه الريح فتحرك جدرانه، إلى أماكن متفرقة، في الغور، الذي يمتد في اتجاه الغرب ليتجاور لصيقًا مع نهر الأردن، فتقيم العائلات عروشها بالخشب والخيش، فتضربها الريح وتحركها، وقد تهدمها، وقد نهدمها نحن مثلما بنيناها بأيدينا في نهاية المواسم.
من هذه الحركة، ومن اختفائها، ولدت لغتي ورضعتُ من حَلمتي المكان:
لدينا سراج بفتيل في العتمة، وقمر يدور في الليل، وشمس تصطاد الكلاب في وضح النهار
لدينا نعاج، ننام، مثل أخوة، في بطونها
لدينا جئير الأبقار، ودلال الأشجار في لقاء الرياح
هذا هو العالم؛
بيتنا ومزرعة الجيران وحميرهم وعجولنا وجرار الماء
لذلك لا أظن أني كنت غير هذه المرأة التي لا تكفّ عن جرّ خروف الماضي إلى حظيرتها كل يوم، في كل ما تقوله وتكتبه؛ لقد خصصت جزءًا من مشروعي في الكتابة للأطفال، وكنت أظن أن هذه طريقتي في العودة إلى هناك.
**
وكانت أكثر من امرأة تمر علينا ونحن نجلس لنرتاح على قيعان الأثلام في فصل الربيع، فتصبّ أمي لامرأة كأسًا باردة من الشاي، ثم تملأ لها دلوًا بأنواع مختلفة من الخضار، أو تملأ لها عُقدتها، فتحملها على رأسها. كانت رائحة المرأة تشبه رائحة البرتقال، لذلك كنت أظن أنها طلعت من بين البيارات التي كنا نذهب إلى أطرافها ونأتي بحزم الحطب. لديها وشم خفيف على ذقنها، وحزن كثير فيها كلها. كانت أمي تقول إنها من النَّوَر، وعندما كنت أطلب شرحًا عن من هم النَّوَر؟ كنت لا أجد فرقا بيننا وبينهم.
أولئك النسوة، وأمي معهن، وجدتي آمنة، ظهرْنَ في روايتي “أشجار للناس الغائبين”. نقّلتهن بين مكانين، بين الغور ومدينة نابلس، فتولت فلستيا تخليصهن من العرق العالق بأجسادهن، جراء العمل في الحقول، وفي الحظائر، وفركت، تحت آباطهن، بثمرة الليف، حتى فاحت منهن رائحة الصابون.
تحدثت في كتاب “شجرة البونسيانا” عن المكان. لم يكن مسطحًا أرضيًا، كان بشرًا بأسمائهم، وملامحهم. كان حكايات، وشجر، وثلاث بنات يرسمن الحجلة فوق الأرض.
قلتُ إننا نَوَر أيضًا، ولا مكان قارّ لنا. ميزتنا عنهم أننا بدل أن نشحذ، كنا نعمل طوال تسعة شهور، ثم نعود أدراجنا إلى البيت الثابت في القرية الذي لا تضربه الريح، فنأكل رب البندورة في أوقات العصر، والجبنة مع البطيخ على الغداء، ونشرب الشاي للاحتفال مع الضيوف، الذين كانوا نَوَرًا مثلنا، في المساء، ونجلس لنتحدث عن الأرض التي تركناها خلفنا في الجفتلك.
لطالما أردت أن أتخلص من هذه التغريبة السنوية، بالكتابة عنها، ألقي بها عن حائط نفسي إلى الخارج، كي تتحطم. لكني لم أكتب مرة واحدة، عن هذا الرحيل الذي جعل حياتنا، عندما أفكر فيها، أشد بؤسًا من حياة من يعيشون في المخيمات، دون أن ينتبه أحد إلى ذلك!
رغم ذلك كان ثمة كتابة موازية نشأت في الخارج بأيدي مجتمع القرية المبنية من الإسمنت، عندما كنت أنتقل من مدرسة الوكالة في الغور، في الشهر الأخير من السنة الدراسية إلى المدرسة الحكومية في القرية، كانوا يصفونني هناك، ويصفون أصدقائي “النَّوَر” بأننا أغبياء لأننا جئنا من ذلك المكان الذي يقع 250 مترا، تحت سطح البحر.
***
كان الحداثيون، كما عرّفتهم في طفولتي، هم من صفّوا الطوب فوق بعضه البعض، أو إلى جانب بعضه البعض. حاولوا ترميم البشاعة، فأضافوا إليها تفاصيل بشعة. أقاموا جدارًا قصيرًا أو أربعة جدران، وغطوها بالقصب أو بألواح الزينكو، أو ثبتوا قماشًا ملونًا من ناحية، فأحدثوا التباين، وهكذا تفوّقوا علينا!. كان أبي أبطأ في التنفيذ، وأجبن بالمجازفة، وهذه الخلطة كانت نتيجتها ميل واضح إلى التقليد والرتابة، فكنت أنظر إلى أبي وأقيّمه معتمدة على قدرته في إحداث تغييرات في المكان الذي يضعنا فيه، وعلى مهارته في اختياره، وهل فكر فينا قبل أن يختاره؟ كان رصيد أبي من الدرجات صفرًا في دفتري. أجلس على حجر، دفتري في حجري، وقلمي في يدي، ويدي تنزف، جراء شوكة، وكان:
“وكان على هذا الدم أن يسيل بقسوة
حتى تعرف العائلة أني مذ خرجت في نزهة إلى حقل الذرة
لم أعد إلى البيت
وأني ما زلت هناك
واقفة فوق حجر
أراقب الحياة
من مكان عالٍ
وأقول: أنا أطول طفلة في العالم”.
***
ولدتُ في أرض مطلق، تقول أمي إنه رجل ينحدر من جذور أميرية. رأيت مطلق عندما زار أرضه مرة أو مرتين، كان يضع حطّة وعقالا على رأسه، ويرتدي جبّة صيفية بلون الحراذين. ما زال وجهه، عندما أتذكره، ثابتًا، دون علامات. لم أعرف إن كان قد أحب أن أبي أخذ منه الأرض مقابل زرعها فيما تم تلخيصه كل سنوات طفولتي بـ “الضمان”. هكذا نشأت كل طفولتي في أماكن “مضمونة”، أماكن مُقايض عليها، تعطيني عملك، فأعطيك الأرض، فتعطيني المال، فينتهي اتفاقنا، فتخرج من المكان.
ومسقط الرأس هذا سيطفو في كتابتي عن الأطعمة، منكّهًا بطعم الحليب من حلمة أمي، وبطعم “المفتول” الذي أكلته في عزاء زوجة أبو أحمد الهولندي، وسيحضر بكثافة داخل ثلاثين ذكرى عن الطعام، في كتاب قيد النشر. قلت للناشر إنه يحتاج لمصور فوتوغرافي، ورسام يرسم مربعًا أضع فيه الطفولة في كل صفحة؛ أن يتحول الكتاب إلى فناء ثلاثي الأبعاد تتحرك في داخله الذكريات كامرأة تتحرك في ساحة بيتها.
أحنّ إلى ذلك المكان على نحو خاص، وانتقائي، أنقيه من بين سائر الأراضي التي قايضها أبي. أنفقَ أكثر من نصف عمره يلعب تلك اللعبة، وكانت مرة تصيب ومرات تخيب، كانت الأماكن تخدعه، وكانت أمي تحدق في الأرض في نهاية كل موسم، لأنها لم تستطع أن تنظر في عيني أبي الغاضب منا جميعا، وتقول:
– ما إلنا فيه خير!
ولم تكن توضح من تقصد منهما؟ فنرمي المكان وراءنا، أو إلى أحد الجانبين، كحجر، ثم نستقر في مكان جديد، فأمرّ على القديم، وأريد أن أقول للساكنين الجدد:
– هذا لنا. كان لنا.
وهم، لو سألتهم، كانوا سيشيرون مثلي إلى مكان آخر كان لهم. ويكون بودّي أن يسمحوا لي أن أدخل بيتهم، فأفتش فيه عن المكان الذي نمت فيه ليلا. كان يشغلني الحيز الذي نمت فيه، وصار النوم، والأحلام التي تتخلل النوم، موضوعًا مركزيًا فيما أكتبه من شعر، والنوم والأحلام كلاهما مكان، أثثتُهما كما أثثت العالم الخارجي الذي يحيط بي، بالخراف والشوك وأطفال صحبة الابتدائي.
**
يصعد أبي وأمي إلى جانب الشوفير، ونصعد أنا وأخوتي فوق أغراضنا. ثم أتسلق الأغراض باتجاه “تندة” الشاحنة، كنت أعرف أن التندة تسمح لي أن أحظى بصورة كاشفة لكل الأماكن التي سنمرّ بها، وكنت أعرف أنني الآن أرى ما سأراه بعد تسعة شهور بالعكس، سأنقل عيني من مقدمة رأسي إلى مؤخرته، فتتغير وجهتي.
لم أعرف نوع هذه الشاحنة في حينه، كنت، فقط، أعرف سائقها واسمه حبيب، لكني، لاحقًا عندما عثرت عليها على نحو مفاجئ، كان نوعها: فولفو، وفولفو كان ممكنًا أن تكون ديوان شعر كامل، لو خفف السائق سرعته لجمعته ونشرته في الصباح التالي، ليس في كتاب بل قصائد طيّرتها وأنا صاعدة فوق “التندة”! لطالما آمنتُ، بسبب الشاحنة التي ظلت تنقلنا من مكان لآخر، بأن الشعر وُجِد ليُذرف على حواف الطرقات، فينبت عشبًا تأكله النّعاج في طريق عودتها إلى الديار مساء.
**
كنا عندما نعود إلى القرية، التي هجرناها تسعة أشهر، لنقيم فيها ثلاثة أشهر، ثم لنعود فنعيد الكرة، وهكذا، كنت أضع جهدي كله كي أجعل هذا البيت ثابتا أكثر، أحاول أن أشد إسمنته بحبال، أربطها بأعمدة، كي لا يطير! بعد كل ظهيرة، بينما الجميع يختبئ. في شهر تموز، خلف الحيطان، أتنقل تحت الشمس الحارقة حول البيت، باحثة عن سره:
– ما هو سرّه؟ لماذا لم يغادر حتى الآن؟ لماذا لم يسكنه غيرنا؟ هذا البيت لنا بشكل دائم، في مكان ثابت ولا يتحرك، ولكني أخشى أن يفكر، في يوم، بالرحيل، ولن أدعه يفكر بالرحيل، لكن كيف؟ أنظف محيطه من القش والحجارة الصغيرة، أقلع الأولى من يديه، والثانية من ظهره، أزرع ورود الخبيزة في أحواض حقيرة حوله، أمسك ببراز القطط وأشم يدي لأتأكد: إنه براز قطط. تناديني أمي وهي تصيح:
– يا مسخوطة، ستصيرين عبدة سوداء.
في الغور كنتُ نَوَرية، وفي القرية صرت عبدة سوداء! وفي الخيال جنيّة:
“كنت جنيّة في طفولتي
لطالما فعلت أمورا تشعرني بالعار
لقد فرقتُ الأم عن ابنتها؛
الخراف الرضّع عن النعاج
العجول الصارخة عن الأبقار
الأشواك المتشبثة من بين ذراعي الصوف
تترجّى: لا تأخذيني
فاستللتها
تفردُ أمي فرشاتها على المصطبة
وما بين اللعب والجد أكون الأكثر انهماكا في العمل
أنفي وفمي مملوءان بالزغب
وجلدي ينزّ عرقًا
والخيطان تتدلى من أطرافي
أفرِّقُ ما أستطيع من شمل العائلات
حتى يغدو صوف أمي نظيفًا
يلمعُ
مثل “البفتة” البيضاء
فلا تقرص الأشواكُ العائلةَ
في أحلامها
كنتُ طفلة جنيّة
أخذ الوادي دلوي المعدن
وحذائي البلاستيك
لكنني نجوت
بأحلامي!”.
***
أفكر دوما أني لست ابنة أحدهم. أنني بنت الأمكنة التي تنقلت بينها، فأعطتني صفاتها، صرت أخاف من التنقل وأخاف من الإقامة!
أمر على فلسطين فأجد نزلاء جددًا يسكنون البيت الذي كان بيتنا، كأني شخص ثالث، يريد أن ينصف شعبًا محرومًا من أرضه:
– أما أنا، بيتي الضعيف، سريع الزوال، أين؟
خزوق موسى، مرج نعجة، الزّبيدات التي تجاورها فتطلان على السلك الشائك الذي يفصل الضفة الشرقية عن أختها الغربية، أرض مطلق بوجهه الثابت دون علامات، أرض عبد الله الأميرية فوق مدرسة غور الفارعة الإعدادية المختلطة، تحت القبّانية، أرض درويش على الشارع العام، أرض حسن الفهد بجانب أرض أبو هندومة، أرض جمال المصري، أرض الصمادي، أرض الحمامي، أرض القمحاوي، الأرض “صفحة الجبل” حيث أقمنا في بيتين يفصل بينهما بيت الحاج “جنكر”؟
– ثم هل هو هذا المكان الذي أصبح بيتي، في حي أم الشرايط، بالقرب من كفر عقب، بالقرب من قلنديا، بالقرب من حاجز الاحتلال، على طرف رام الله الجنوبي، بجانب المنطقة C، حسب اتفاق أوسلو؟
– هل مكاني منطقة A في هذا الدنيا، هل هو A+، كزمرة دمي، كما أشاء، صاعدة من الكرة الأرضية، أم A-، كما يفرض الاحتلال الإسرائيلي؟
ثم أقول، كخاتمة، إنني إذا أردت أن أعيش في مكان حرّ فسأعيش في الشعر، في الكتابة!
________
*كاتبة وشاعرة فلسطينيّة، ومدرّبة متخصّصة في مجال الكتابة الإبداعيّة. لها مؤلّفات في القصّة القصيرة، والكتب المصوّرة، والروايات، والمذكّرات.
**النص من موقع “ضفة ثالثة”.