*طالب الرفاعي
ظلَّت الحكاية الإنسانيَّة حبيسة الصدور، تتناقلها الألسن مُشافهةً، من جيلٍ إلى جيل، كخبرة حياتيَّة مهمَّة ومسلية لحين اخترع الإنسان الحرف/ الكلمة/ اللغة.
ويوم استخدم الألماني “يوهان غوتنبرغ 1398-1468” الآلة الطابعة، كان ذلك بدءًا لحياة جديدة لبني البشر، حياة تكشف عن عوالم الفكر والعلم والمعارف والآداب، وتُتيح للإنسان معرفة تجربة الآخر أينما كان، وتخليدها عبر الكتابة والقراءة.
اللغة هي حامل الفكرة الإنسانيَّة، ووسيلة نقلها إلى الآخر، والثوب الذي ترتديه أية كتابة أدبيَّة لمواجهة جمهور القرّاء. وبقدر ما تكون اللغة سليمة وواضحة وعميقة وموحية وعصريَّة، يكون أثرها وتأثيرها على القرّاء.
ومن هنا فإنَّ الإلمام بعلوم اللغة وقواعدها وجماليّات تراكيبها، يُعدّ سبيل النجاح الأهمّ لأي كاتب يّريد التعبير عن أفكاره وإيصالها إلى جمهور القراءة.
إذا كانت اللغة في القصَّة القصيرة تأتي مكثّفة ودالة، وبعيدة عن الوصف المطوّل، كونها تقدّم حدثًا مكثّفًا وعميقًا وعابرًا سريعًا للقارئ فإنّها في الرواية تلعب دورًا مغايرًا لكونها تساهم مساهمة كبيرة في وصف بيئاتها، وسرد أفعال الشخصيّات بهواجسها وأفكارها ومشاعرها ومواقفها حيال العالم المحيط بها وصولًا إلى تحديد مصائرها. فاللغة لا يمكن لها أن توجد بمعزل عن متحدّثها. وهي إلى جانب تمثيلها لبيئة متحدّثيها وأصواتهم، فإنّها تُعَدّ العنصر الأهمّ، الذي يحدّد علاقة القارئ بالنصّ.
تتجلّى اللغة في الرواية على شكلِ حدثٍ ووصف وحوار. فكل شخصيَّة لها صوت يخصّها ويمنحها فرادتها وملمحها الأوضح. ممّا يتطلَّب من المؤلّف أن يكون واعيًا لاختلاف اللغة التي تصف كلّ شخصيَّة، وترد على لسانها. فالواقع الإنساني المعيش، يؤكِّد تميّز كل شخصيَّة، ويُعاب على الروائي أن تنطق كل الشخصيّات الروائيَّة بصوته وقناعاته. إنّ التنوّع اللغوي والصوتي والإيديولوجي القائم، أصلًا، في الواقع يلج إلى الكون الدلالي للرواية عبر الحواريَّة التي تسمح للشخصيّات بالانعتاق من سلطة الكاتب اللغويَّة والفكريَّة؛ فتنطق بكلامها وتُبيِّن عن رؤاها للعالم بكلّ حرّيَّة واستقلاليَّة.
تُجمِع المدارس النقديَّة الحديثة، على أنّه ليس من طريقة محدَّدة لكتابة الرواية، وأنه بإمكان الروائي كتابة روايته بأي شكل وأي صيغة، ومن أي لحظة زمانيَّة.
شرط أن تتوفَّر فيها العناصر الفنيَّة المطلوبة للكتابة الروائيَّة. ويمكن تلخيص الصيغ التي تظهر بها اللغة في الرواية على النحو التالي:
- صيغة “ضمير المتكلِّم” (أنا، نحن)، وهي الصيغة التي تفصح بها شخصيّات الرواية عن عوالمها بأصواتها، كلا بصوته. وقد تأتي الرواية كاملة بصو أحد أبطالها، وقد تتعدَّد الأصوات بعدد الشخصيّات، لكن المهم هو التمايز بين صوتٍ وآخر.
فليس من شخصيَّة بشريَّة تنطق بالمفردات والفهم والطريقة نفسها الذي تنطق به شخصيَّة أخرى، كما أنّه يتوجَّب على القارئ أن يميِّز بين صوت الرواي وصوت المؤلِّف. فالراوي يُعدّ إحدى شخصيّات الرواية وهو من صنع المؤلّف. ويمكن النظر إلى رواية “النفق” للكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو (1911-2011) كنموذج روائي لافت لصيغة ضمير المتكلِّم.
- صيغة “ضمير المخاطب” وهي الصيغة التي يتبنّى فيها المؤلّف مخاطبة بطله أو أبطاله بصيغة (أنتَ أو أنتِ، أو أنتن أو أنتم)، وهذه المخاطبة تتّجه ضمنيًّا لمخاطبة القارئ، وهكذا يكون القارئ جزءًا من اللعبة الروائيَّة. ويمكن النظر إلى رواية الفرنسي ميشيل بوتور (1926-2016) “التحوّل” بوصفها واحدة من أهمّ الروايات العالميَّة التي أنجزت بصيغة ضمير المخاطب.
- صيغة “الراوي العليم”، وهي الصيغة الكلاسيكيَّة، منذ القرن التاسع عشر، حيث يتولَّى راو] متفرّد التعريف بجيمع عوالم الرواية وأماكنها وأبطالها عبر “ضمير الغائب” بصيغة (هو أو هي أو هما أو هم أو هنَّ). ومن النماذج الروائيَّة الدالّة على هذه الصيغة رواية “موبي ديك” للكاتب الأمريكي هرمان ميلفل (1819-1981).
إنّ جمال اللغة الروائيَّة يتجلَّى في قدرتها على أن تكون متجدّدة وحاملة أوجه، وقدرتها من جهة ثانية على إيصال رسالتها الإنسانيَّة الذكيَّة، دون التصريح المباشر بذلك، بعيدًا عن التقريريَّة والتنظير السياسي أو الاقتصادي. خاصَّة وأنّ الرواية تشهد رواجًا عالميًّا غير مسبوق، بحكم علاقتها بحياة الإنسان من جهة، وسحرها في أن تدخل القارئ إلى عوالمها فيتوهَّم بأنّه يعيش أحداثها، وبما يضيف وعيًا لوعيه، وحياة لتجربته الحياتيَّة الخاصَّة.
إنَّ مادة الدرس وحدها تعطي سببًا مقنعًا لتشريح عوالم الرواية، والقول بإنّها تتكوّن من زمان ومكان وحدث وشخصيَّة ولغة، لكن واقع الحال هو أنّ كل رواية تشكّل عالمًا فنيًّا قائمًا بذاته. وأنه يصعب جدًا فصل أي عنصر من عناصره. بل إنّ أبدع الروايات هي تلك التي تقدّم نفسها بوصفها قطعة حيَّة من الواقع، حتّى ليصعب على القارئ التفريق بينها وبين الواقع.
وربّما هذا هو أحد أهمّ عامل ما يتّصف به الفنّان المبدع، بأن يأخذ من الواقع بعض أحداثه وشخصيّاته، ومن ثمّ يقوم بإعادة خلق هذه الأحداث وتلك الشخصيّات وتشكيلها وفق خياله ولغته، وصبّها في قالب فنّي جديد، فتبدو وكأنّها واقع حقيقي يضجّ بالحياة. لدرجة أنّ المتلقّي يصدّقها ويتأثّر بها، كونها تساعده على كشف تعقيدات الواقع، وفهم قوانينه بدرجة أكبر ممّا أتاحت له الحياة الواقعيَّة التي عاشها.
______
*النصّ من كتاب (مبادئ الكتابة الإبداعيَّة للقصّة القصيرة والرواية)/ تأليف: طالب الرفاعي/ تقديم: أ.د. سليمان الشطي/ منشورات ذات السلاسل/ الطبعة الأولى 2018.