كيف نكتب؟

أين دفتر يومياتك؟

*محمد عبد النبي

الأيَّام القديمة

اسمحوا لي أن أدعوَكم لقراءة هذه القصيدة الصغيرة، للشاعر والروائي والمترجم المصري «أحمد شافعي»، من ديوانه النثري «وقصائد أخرى»، وهي دون عنوان مثل بقيَّة قصائد الديوان الجميل:

(سأعتبرُ أني نجحتُ يومَ يصبحُ دفترُ شعري دفترَ مذكراتي، ولكنني لا أعرفُ في أيِّ شيءٍ حينئذٍ أكونُ نجحتُ.

ثُمَّ، وماذا حينَ يصبحُ دفترُ مذكراتي دفترَ شعري، فهذا ما يحدثُ، ودونَ مجهودٍ، وربما دونَ قصدٍ، أَصْبَحَتِ الأيامُ القديمةُ قصائدَ أو تكادُ، وكلما أقرؤُها أصدِّقُ أنني عِشتُ بالفعلِ ألفَ عامٍ وأكثرَ، وربَّما ليسَ عليَّ سوى أن أتمادَى في العَيْشِ).

هنا مُستودع رُوحك

كثيرون منَّا يميلون عند الكتابة إلى تجنُّب أقوى عواطفهم، والالتفاف في حذر بالغ حول المناطق الملغومة بداخلهم؛ إمَّا لأنهم يخافونها (على المستوى النفسي أو الاجتماعي)، وإمَّا لأنهم يخشون أن يُوصموا بالسنتمنتالية (باختصار: العاطفية السائلة، الزائدة عن الحدّ). ومع ذلك، فإنَّ تلك المناطق والنقاط ذاتها هي التي تشكِّل تفرُّدنا وخصوصية تجربتنا، والتي قد تضفي على سطورنا لونَ الحقِّ والحقيقة، فإنْ لم تكُن قصائِدُك وقصصك تعني شيئًا لك — شيئًا خاصًّا وحميمًا ولا يشبه إلا ذاته — فكيف ستعني أيَّ شيءٍ بالنسبة إلى قارئك (توءم روحك) كما صرتَ تعرف الآن؟ وقد قال الكاتب الأمريكي وليام كتريدج:

إن لم تغامِرْ عاطفيًّا (حرفيًّا: سنتمنتاليًّا) فما زلتَ بعيدًا عن ذاتك الداخلية.

إذا كنتَ مثل كثيرين غيركَ تخشى الانكشاف أمام الآخرين، أو تخشى صبَّ عواطفِكَ الخام على الورق كيفما اتفق، فليس عليكَ إذن أن تذهب بها مباشَرةً إلى نصوصك، يمكنكَ أن تستودعها رفيقكَ الطيِّب الصغير (دفتر يومياتك). مهما بَدَا لك هذا مائعًا أو مُخجِلًا كأغنيات المراهَقَة، فَلْتجرِّب — على الأقل ولو لمرة واحدة — أن تضع قلبكَ على الورق. استعِدْ حسِّيَّة فعل الكتابة القديم: القلم، ومَلْمَس الأوراق، والصوت الضعيف لخطِّ يدكَ على السطور. استعِدْ عزلةَ وسريةَ المراهِقين، فكلُّ كاتب بداخله هذا المراهِق الخجول، مهما تباهى وتبجَّح وادَّعى العكس. اكتب عن يومِكَ عمومًا، أو عن شيءٍ صغيرٍ للغاية جرى لك فيه؛ مشهد، أو شخص الْتقيْتَ به. لا تظن أن يومكَ لم يحدث فيه أيُّ شيءٍ جديرٍ بالتسجيل، فلا يوجد هذا اليوم على الإطلاق، ومع الوقت سوف تطوِّر قدرةً خاصةً على ملاحظة تلك الأشياء الصغيرة التي تدعوك لتسجيلها على الفور.

كلُّ لحظةٍ حياة

إذا ما تريَّثتَ وتأمَّلتَ في وقائع يومٍ واحدٍ فقط من أيام حياتكَ العادية، فسوف تندهش أمام كمِّ الأشياء والأفكار التي يحتشد بها؛ قد يقتضي الأمر منكَ بضعة أيامٍ لكتابة ما جرى في ساعة واحدة فقط، وليس علينا إلَّا الرجوع لبعض الروايات الخالدة في تيَّار الوعي، مثل: «عوليس» لجيمس جويس، أو «السيدة دالاواي» لفيرجينيا وولف، وبالطبع «البحث عن الزمن المفقود» لبروست، حتى ننتبه لألعوبة الزمن، وكيف تكتنز كلُّ لحظة بداخلها حياةً غنيةً ذات طبقاتٍ وألوانٍ وأنغام.

العبْ بنفسك

لا تنتهي الحكاية بالطبع مع اكتسابكَ عادةَ تدوينِ سطورٍ قليلة كلَّ يوم في دفتر يومياتك، بل هنا تبدأ؛ فإذا لم تكن تعمل على مشروع كتابة محدد، يُمكن أن يتحوَّل دفترُكَ إلى معمل تجارب تحمله معكَ أينما ذهبت؛ مثلًا: يمكنكَ أن تُنَحِّي جانبًا مشاعرَكَ الخاصة لبضعة أيام، وتركِّز فقط على وصف المشاهدات والأحداث بعينٍ محايدةٍ قدر الإمكان. على سبيل المثال: لو التقيتَ مصادَفةً بزميل قديم، لا تكتفي بكتابة: «وكم أسعدتني المصادفة!» بل حاوِلْ أن تتذكَّر كيف عبَّرتَ عن سعادتك هذه، بمَ أحسستَ على المستوى الجسديِّ الصِّرْفِ، ما الحديث الذي تبادلتُماه، كيف بَدَا الآن وكيف كان يبدو في المرة الأخيرة التي رأيتَه فيها؟ في مرة أخرى، اكتُب عن نفسك بصيغة الغائب، أو من وجهة نظر أحد زملاء العمل أو جاركَ الذي لا يرتاح إليك، والاحتمالات — كما هو الحال دائمًا — غير محدودة.

الأهداف هنا عديدة، ولا ينفي بعضها بعضًا؛ من ناحية، تتيح لك الكتابة في دفتر يومياتكَ شجاعةً لن تجدها إذا جلستَ أمام ورقة بيضاء بِنِيَّة كتابة نصٍّ أدبي، ثم إنكَ قادر هنا على النبش في أعماق رُوحكَ متلمِّسًا المناطق الساخنة التي ستعود إليها فيما بعدُ عند الكتابة ﺑ «ألف لام التعريف». إلى جانب هذا كله، كلما حرصتَ على تدوين سطور ولو قليلةً يوميًّا؛ تعزَّزَتْ تلقائيًّا قدرتُكَ على الملاحظة والْتقاط التفاصيل الصغيرة المهمة، من وسط غمار حياتكَ اليومية، وبالتالي قدرتكَ على وصفها، ولو من دون دِقَّة أو لغة منمقة، كلُّ ذلك دون أن تُضْطَرَّ إلى التركيز في ألف شيءٍ آخَر كتطوير الحبكة وبناء الشخصية … إلى آخِر مطالب الكتابة السردية الأخرى. أنتَ هنا في غرفتك الخاصة، تكتب لتتعرَّف على نفسك، وتمرِّن عضلاتكَ التي لا تستعملها، وربما تعود إلى تلك الصفحات ذات يوم لتكتشف الجسور التي ربطت على الدوام بين أيام حياتِكَ وبين نُصُوصِكَ، ربما عندئذٍ تكون نجحتَ في تحقيق ذلك الشيء الغامض الذي أشار إليه أحمد شافعي في قصيدته؛ «أن يصبحَ دفترُ شعرِكَ هوَ دفترَ مذكراتك».
_________
* النصّ من كتاب محمد عبد النبي (الحكاية وما فيها: السرد “مبادئ وأسرار وتمارين”)/ مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة/ الطبعة الأولى 2017.

** محمد عبد النبي كاتب ومترجم مصري.صدرت له عدّة روايات ومجموعات قصصيَّة، وفاز بجوائز محليَّة وعربيَّة وعالميَّة. يواصل النشر الورقي والإلكتروني لإبداعاته الأدبية وقراءاته النقدية وترجماته في العديد من الإصدارات ويمارس التدريب على الكتابة الأدبية منذ عام 2009، في ورشة باسم “الحكاية وما فيها”.

مقالات ذات صلة

شارك النقاش

زر الذهاب إلى الأعلى